Datasets:

Modalities:
Text
Formats:
parquet
Libraries:
Datasets
pandas
Dataset Viewer
Auto-converted to Parquet
Document
stringlengths
40
198k
لؤلؤة الحب أفصَحَ الواعظُ قائلًا إن اللؤلؤ أبهى مِن أشدِّ الأحجار البَلُّورية لمعانًا؛ إذ يُخلق من رحمِ معاناةٍ يلقاها مخلوقٌ حي. لا يَسعني التعليق على ذلك الأمر لأنني لا أَستشعِر شيئًا من سحرِ اللؤلؤ، ولا يُحرِّكني بريقُه الغامض على الإطلاق. ولا يَسعني كذلك تحديد موقفي من ذلك الجدل الذي دام طويلًا حول ما إذا كانت قصة «لؤلؤة الحبِّ» أشدَّ القصص قسوةً أم أنها لا تعدو كونها أسطورةً خلَّابة عن خلود الجمال وأبديتِه. إن كُلًّا من القصة وما يدور حولها من جدلٍ سيكونان مألوفَيْن لطلاب النثر الفارسي في العصور الوسطى. والقصة قصيرة، بالرغم من أن ما كُتب عنها من شروحٍ وتعليقاتٍ يُمثِّل جزءًا مُعتبَرًا من أدبِ تلك الحِقبة، فالبعض تناوَل القصَّة كإبداعٍ شِعري، والبعضُ الآخر تناوَلها كقصَّةٍ رمزيةٍ تحمل معانيَ عديدة. وكان لعلماء اللاهوت منهجُهم الحافل في تناول تلك القصة؛ إذ تعاملوا معها بصورةٍ خاصَّة باعتبارها تدور حول بعثِ الجسدِ بعد الموت، كما جرَت مجرى المثل على لسان مَن يَكتبون عن فلسفة الجمال، بينما اعتبرها الكثيرون بيانًا لحقيقة بسيطة وواضحة في صِدقها. تَقعُ أحداث القصة في شمال الهند، وهي أخصب الأراضي إنتاجًا لقصص الحبِّ الجليلة على سطح الأرض؛ في بلاد شروق الشمس والبُحيرات والغابات الكثيفة والتلال والوِديان الخِصبة؛ حيث ترى الجبال الشاهقة من بعيدٍ وكأنها مُعلَّقة في السماء، والقِمَم العالية والتلال المكسوَّة بالثلوج المنيعة والدائمة. كان هناك أمير شاب، سيد تلك المملكة؛ وجد فتاةً بِكرًا ذات جمال وعذوبة يعجز عنهما الوصف، وجَعلها مليكته وألقى إليها بزمام قلبِه. دان لهما الحُب؛ حبٌّ مُفعَم بالبهجة والعذوبة، فياضٌ بالأمل؛ حبٌّ آسرٌ شجاعٌ مُدهِش، يفوق أي شيء تخيَّلتُه يومًا عن الحب. كان الحبُّ قدَرهما عامًا وبعض العام؛ وفجأة، وبسبب لدغةٍ سامةٍ تعرَّضَت لها في الأدغال، ماتَت الأميرة. ماتت وظلَّ الأمير فترةً منطرِحًا تمامًا. ظلَّ صامتًا وقد أفقَده الحزنُ الحركة، حتى إنَّ حاشيته خشُوا أن يَقتل نفسه، ولم يكن لديه أولادٌ ولا أشقَّاء يَخلُفونه. ظلَّ يومَين وليلتَين لم يذق فيها الطعام، مُكبًّا على وجهه عند قدم الأريكة التي حمَلَت جسدها الساكن الجميل، ثم نهَض بعدها وتناول الطعام، ومضى بكلِّ هدوء كمَن اتَّخذ قرارًا عظيمًا. أمر بوضع جسدِها في تابوت مصنوع من مزيج الفِضَّة والرَّصاص داخل تابوت خارجي مصنوع من أثمَنِ الأخشاب قيمةً وأزكاها طيبًا، وقد زُخرِفَ بالذهب، ووُضِع الاثنان داخل تابوتٍ من المرمر، مُرصَّع بالأحجار الكريمة. وبينما كانت أوامره تُنَفَّذ، قضى الأميرُ مُعظَم وقتِه بالقرب من بِرَك الماء مُتنقِّلًا بين الاستراحات الصيفية والأجنحة والبساتين وحجرات القصر التي قضَيَا بها معظم أوقاتهما، ومُستغرِقًا في التحسُّر على جمالها. لم يشقَّ ثيابه ولم يُلطِّخ نفسه بالرماد أو يَلْبَس الخَيش كَما جَرَتِ العادة في هذا الوقت؛ فحبُّه لها كان أعظمَ بكثير من هذه المُبالغات. وأخيرًا خرج مجدَّدًا على شعبه بين مُستشاريه وأبلغهم بما اعتزَمَ على تنفيذه. قال إنه لن يَقدِر بعد الآن أن يَلمِس امرأةً أخرى، ولا أن يُفكِّر في النساء مجدَّدًا؛ ولذلك سيَبحث عن شابٍّ مُناسِبٍ ليتبَنَّاه ويكون وريثه ويُدرِّبه على مهمَّته؛ بحيث يؤدي واجبات الإمارة حين يَحُلُّ محلَّه ويصبح أميرًا؛ ولكن بالنسبة إلى ما بقيَ مِن حياته فإنه سوف يَنذِر نفسه وكلَّ ما يَملك من سلطة وقوة وثراء وكلَّ ما تحت تصرُّفه من أجل تشييد نُصْبٍ تَذكارِيٍّ جديرٍ بفقيدته العزيزة التي لا نظيرَ لها؛ بناءٍ لا بد أن يكون آية في الجمال والبهاء، وأكثر روعةً من أي بناء شُيِّدَ قبْلَه أو سيُشيَّد بعْدَه، ليَبقى حتى نهاية الزمان أعجوبةً لم يُرَ مثيلٌ لها، ويُقدِّرَه الرجال ويتحدثوا عنه ويتشوَّقوا لرؤيته ويأتوا من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ لزيارته وإحياء ذكرى المَلِكة واسمها. وقال إنه سيُسمِّي هذا المبنى «لؤلؤة الحب». وأقَرَّه مُستشاروه وشعبُه على هذا القرار، وشرع في تنفيذه. مضت سَنةٌ تلو أخرى، وعلى مرِّ السنوات كرَّس نفسه لبناء وتزْيين لُؤلؤة الحب. نُحِتَ الأساس العظيم لهذا البناء من الصخور، بحيث يُطلُّ على برية الجبل العظيم المكسوَّة بالثلوج الممتدة عبْر وادي العالم. كانت هناك قرًى وتلال، ونهر مُتعرِّج، وعلى مسافة بعيدة للغاية تقع ثلاث مدنٍ كبرى. هنا وضَعوا التابوت المرمري تحت فُسطاطٍ بارع الصنع، وحوله تَنتصِب مجموعة من الأعمدة المصنوعة من الأحجار النادرة والجميلة، وجدرانٌ مُزخرَفة ومزدانة بالنقوش المتداخِلة، ونعشٌ حجري عظيم تعلوه قبَّة وأبراج وقُبَيبات، فبدا فاتنًا كالجَوهرة. في البداية كان تصميم لؤلؤة الحب أقلَّ جرأةً وصَقلًا مما أصبح عليه فيما بعد؛ ففي البداية كان أصغرَ وأكثرَ زخرفًا وترصيعًا؛ كان يوجد العديد من الفواصِل المَثقوبة ومجموعات بالغة الرقة من الأعمدة الوردية اللون، وقد استقر التابوت بينها كالطِّفل النائم وسط الزهور. كانت القُبَّة الأولى مُغطَّاة بالقرميد الأخضر الذي تَجمعه وتَحُوطه الفضة، ولكنَّها هُدِمَت؛ لأنها بدَت قصيرةً ولم تَكُن عظيمةَ الشموخ بما يَتناسب مع خيال الأمير المُتنامي. ففي ذلك الوقت، لم يَعُدِ الأميرُ ذلك الشابَّ الوسيمَ الذي أحبَّ المَلِكة الشابة، بل أصبح رجلًا رصينًا قويَّ العزم مُنكَبًّا كليًّا على بناء لؤلؤة الحب. وبمرور كلِّ عامٍ من الجهود المبذولة، كان الأمير يتعلَّم إمكانياتٍ جديدةً عن الأقواس والجُدران والدِّعامات، وأصبح أكثر تمكُّنًا من المواد التي يجب أن يستخدمها، وتعرَّف على مائةِ حجرٍ وألوانٍ ومُؤثِّراتٍ لم تكن لتخطر على باله في البداية. أصبح ذوقُه في الألوان أرقى وأهدأ؛ فلم يَعُد يَسترعي انتباهَه ذلك البريقُ المصقول المبطَّن بالذهب الذي كان يَرُوق له سابقًا، بريقُ كتابِ الصلوات المُزخرَف، بل صار يَميل الآن إلى درجات اللون الأزرق مثْل زُرقة السماء، وإلى الألوان الهادئة المُميِّزة للمِساحات الشاسعة، وإلى الظلال الغامضة والفَيضانات الهائلة المُفاجئة من البريق الأُرجواني، وصار يَميل إلى الفخامة والسَّعة. سئم تمامًا من المنحوتات والصور والزخارف المُرصَّعة وكلِّ العمل الدقيق المُتقَن الذي نفَّذه العاملون في البناء. قال عن الزخارف التي قام بها فيما مَضى: «تلك الأشياء كانت تافهة.» وأمر بنقلها إلى بعضِ المباني التابعة للمَبنى الرئيسي بحيث لا تُعرقِل التصميم الرئيسي. تنامت براعته الفنية أكثر وأكثر. وبانبهارٍ وإجلالٍ، شاهَد الناسُ لؤلؤةَ الحُبِّ وهو يتحوَّل من صورته الأولى إلى صرحٍ خارقٍ في سَعتِه وعُلوِّه وأُبَّهتِه. لم يعرفوا بالضبط ما الذي كانوا يتوقَّعونه في مُخيَّلاتهم، ولكنَّهم لم يتوقعوا قط شيئًا بمثل هذا الجلال والمهابة. وقالوا متهامسِين: «مُذهلةٌ هي المعجزات التي يمكن أن يصنعها الحُب.» وكل النساء في العالم — وإن كان لديهن أحبَّاء — أحببن الأميرَ لعظيمِ وفائه لمحبوبته. كان في مُنتصَف المبنى بهوٌ عظيمٌ مُطلٌّ على منظرٍ خلَّاب، أصبح الأمير مُولَعًا به أكثر وأكثر. وقف الأمير في المدخل الداخلي للمبنى ناظرًا منه على طول رُواقٍ شاسِع ذي أعمدة وعبْر ساحة مركزية؛ حيث كانت توجد أعمدة وردية قبل أن يَأمر بإزالتها منذ أمدٍ بعيد، مُشرفًا خلال فُرجةٍ رائعةِ التصميم على الفُسطاط الذي يَحتضِن التابوت، لتُطالِعه في نهاية المشهد البراري الجليدية المُحيطة بالجبل العظيم، سيد الجبال كلِّها، والواقع على بُعْدِ مائتي ميل. بدَت الأعمدة والأقواس والدعائم والأروقة شامخةً على كلا الجانبَين كأنَّها تُحلِّق في الهواء، مثالية الصُّنع لكن دون أن تَستحوِذ على المشهد، كرُؤساء الملائكة الكرام وهم واقفون في الظلِّ مُترقِّبين في حضرة الرب. وعندما رأى الرجال هذا الجمال المهيب للمرة الأولى انتابتْهم نشوةُ الحماس، لكن ما لبِثوا أن ارتعدوا وخشعتْ قُلوبُهم. كثيرًا ما كان الأمير يزور الصَّرحَ ليقفَ هناك ويَنظُرَ إلى هذا المنظر الخلاب مُتأثِّرًا بشدة، لكن دون أن يُحسَّ بالرضا التام. كان يشعر أن لؤلؤةَ الحُبِّ لم يَزل ينقصه شيء ينبغي أن يُتمَّه قبل أن ينتهي من مهمَّته. كان دائمًا ما يَأمُر بإجراء بعض التعديلات البسيطة أو بإزالة بعض التعديلات التي أمرَ بإجرائها حديثًا. قال يومًا إنَّ التابوت سيَزداد وضوحًا وبساطة بدون الفُسطاط، وبعد إمعان النظر في الأمر طويلًا، أمرَ بتفكيك الفُسطاط وإزالته. جاء الأمير في اليوم التالي دون أن يَنبِس بِبنْتِ شَفَة، وكذلك اليوم التالي والذي يليه. ثم غاب يومَين كاملَين، لكنه عاد بعدها جالبًا معه مُهندسًا معماريًّا واثنين من كبار الحرفيِّين وبعضًا من رجال حاشيته. وقفوا جميعًا في مجموعةٍ صغيرةٍ صامِتِين وناظِرين، وسط عَظَمة إنجازهم الجليل. لم يبقَ كمالُه أثرًا لما تحمَّلوه من نصَبٍ وكأن ربَّ جمال الطبيعة استأثر بثمرة مجهودهم لنفسه. لم يُفسد هذا التناغمَ الكاملَ إلا شيءٌ واحد. كان ثمَّة قدْرٌ من عدم الانسجام يضفيه التابوت الحجري. لم يَجرِ قطُّ توسيعُ بنائه؛ وأنَّى يكون بالإمكان التوسُّع في بنائه وهو يعود إلى الأيام الأولى؟! بدا وكأنه يتحدَّى العين ويَعترض الخطوط المنسابة. بداخل هذا التابوت استقرَّ النعشُ المصنوعُ من الفِضَّة والرَّصاص، وبداخل النَّعش ترقد المَلِكة؛ السبب الغالي الخالد وراء تشييد كلِّ هذا الجمال. ولكن هذا التابوت الآن لم يَعُد يَبدو إلا مُستطيلًا صغيرًا مُعتمًا يَرقُد في تناقضٍ صارخٍ مع المشهد العظيم ﻟ «لؤلؤة الحب»؛ وكأنَّ شخصًا ألقى بحقيبة سفر صغيرة في بحر الجنة البَلُّوري. استغرق الأميرُ في التفكير طويلًا، ولكنَّ أحدًا لم يعلم قط بما جال بخاطره. وأخيرًا تكلَّم؛ فأشار بيده قائلًا: «أَبْعِدوا هذا الشيءَ من هنا.» لؤلؤة الحب
يعقوب بن زبدي ممالك العالم في يومٍ من أيام الربيع وقف يسوع في ساحة المدينة في أورشليم وشرَع يُخاطِب الجموع عن ملكوت السماء. فاتَّهم الكَتَبة والفريسيين بإقامتهم فِخاخًا وحفْرِهم حُفَرًا في طريق الراغبين في الملكوت، موبِّخًا وزاجِرًا. وكان بين الجموع رجال يُدافِعون عن الفريسيين والكَتَبة، ففكَّروا في أن يقبِضوا على يسوع وعلينا جميعًا. ولكنَّه تجنَّبهم وأعرَض عنهم سائرًا إلى البوَّابة الشمالية للمدينة. وهناك نظر إلينا وقال: لم تأتِ ساعتي بعد. إن هنالك كثيرًا سأقوله لكم وكثيرًا سأفعله بينَكم قبل أن أُسلِّمَ نفسي للعالم. ثمَّ قال وفي صوته رَنَّة الفرَح والضحك: هلمَّ بنا إلى الشمال لنُلاقي الربيع. تعالَوا معي إلى التِّلال؛ لأن الشتاء قد ولَّى وثلوج لِبنان تنحدِر إلى الأودِية لتترنَّم مع الجداول. قد قضت الحقول والكروم على النَّوم، واستيقَظَت لتُحيِّي الشمس بِتِينها الأخضر وعِنَبِها الرقيق. وكان يمشي أمامنا ونحن نتْبَعه كلَّ ذلك اليوم والذي تلاه. وفي مساء اليوم الثالث وَصلْنا إلى قُنَّة جَبَل حرمون، وهنالك وقف ينظر إلى مُدن السهول. فأشرَق وجهُه كأنه الذَّهب المُحترق، وبسَط ذراعيه، وقال لنا: انظروا إلى الأرض في ثَوبها السُّندُسي، وتأمَّلوا كيف طرَّزت السواقي أهدابه بالفضَّة اللامعة. حقًّا إن الأرض جميلة، وكلُّ ما عليها جميل. ولكن وراء كلِّ ما تنظُرون ملكوت سأحكُمُه وأَسُودُ فيه، فإذا شئتم ورغِبتم من قلوبكم فأنتم أيضًا ستذهَبون إليه وتحكُمُون معي. إن وَجْهي وَوُجوهكم لن تتقنَّع فيه، ولن تحمِل يدُنا سيفًا ولا صَولجانًا، وسيحبُّنا رعايانا وسيَعيشون بسلامٍ من غير أن يعرِفوا خوفًا مِنَّا. هكذا تكلَّم يسوع. أما أنا فإنَّني كنتُ أعمى عن جميع ممالك الأرض وكلِّ المُدن ذات الأسوار والقِلاع، ولم تكن في قلبي سوى رغبة واحدة؛ أن أتَّبع المُعلِّم إلى ملكوته. وفي تلك اللحظة تقدَّم يهوذا الإسخَرْيُوطي ودَنا من يسوع، وقال له: تأمَّل، إن ممالك العالَم واسعة، ومُدن داود وسليمان ستغلِب الرومانيين. فإذا شئتَ أن تكون ملك اليهود فإنَّنا نقِف سيوفنا ورِماحنا لتأييدك وفوزِك على الغُرَباء. ولمَّا سمِع يسوع هذا، التفَتَ إلى يهوذا وأمائر الغَضَب تملأ مُحيَّاه، وخاطبه بصوتٍ راعبٍ كرَعْد السماء قائلًا له: تخلَّفْ عنِّي يا شيطان! وهل يخطُر لك أنَّني جئتُ في مواكِب السنين لأحكُم ثُلَّةً من النَّمل يومًا واحدًا؟ إنَّ عرشي يَفُوق بصيرتك. وهل يُمكِن أنَّ الذي يَحوط الأرض بِجناحَيه يَنشُد ملجأً في عُشٍّ مهجور مَنسي؟ أم هل يتشرَّف الحيُّ ويترفَّع بواسطة لابِسي الأكفان؟ «المصلوب». إنَّ مملكتي ليست من هذه الأرض، ومجلسي لم يُبْنَ على جَماجم أسلافكم. فإذا كنتُم تَنشُدون مملكةً غير مملكة الرُّوح فالأجدَر بكم أن تتركوني ها هنا، وتنحدِروا إلى مَغاوِر أمواتكم حيث يَعقِد ذوو الرءوس المُتوَّجة منذ القديم مجالسهم في قبورهم ليُعطوا مجدًا لعظام جُدودكم وآبائكم. كيف تَجرؤ أن تُجرِّبني بِتاجٍ من نفايةِ المادَّة في حين أنَّ جبهتي تنشُد إمَّا الثُّريَّا وإما أشواككم؟ إلَّا أنَّني لولا حُلمٌ حلَمَه جِنسٌ مَنسيٌّ لما كنتُ آذنُ لشمسِكم أن تُشرِق على صبري ولا لقَمَرِكم أن يبسُط ظِلِّي في طريقكم. ولولا رغبة تقيَّة اختلَجَت في قلب أمٍّ طاهرة لكنتُ جرَّدتُ نفسي من أقمِطَتي وهرَبْتُ راجعًا إلى الفضاء. ولولا الكآبة التي في أعماقِكم جميعًا لما كنتُ أقمتُ هنا للبُكاء والنُّواح. فمن أنت وما شأنك يا يهوذا الإسخريوطي؟ ولماذا تُجرِّبُني؟ هل وَزَنْتَني في الميزان فوجدْتَني جديرًا بأن أقود جيشًا من الأقزام، وأُدير مَراكِبَ من لا شكلَ له ضدَّ عدوٍّ لا يجتمع إلَّا في بُغضكم ولا يَهجُم إلَّا في مَخاوِفكم وأوهامكم؟ كثير هو الدُّود المُجتمِع حول قدَمي، ولكنَّني لن أُصلِيه ضربًا. قد مللتُ الهَزْل والمُجون وسئمَتْ نفسي الشفقة على الدبابات التي تحسبُني جبانًا لأنَّني لا أتخطَّر بين أسوارِها وقِلاعها الحصينة. إن من دواعي الشَّفقة أن أكون مُحتاجًا إلى الرَّحمة حتى النهاية. وكم أودُّ لو كنتُ قادرًا على أن أُدير خطواتي إلى عالمٍ أكبر من هذا العالم، حيث يعيش رِجالٌ أعظم من رجاله، ولكن كيف أفعل ذلك؟ إن كاهِنَكم وإمبراطوركم يُريدان دَمي، وسَينالان ضالَّتَهما قبل سَفري إلى ذلك العالم. إنَّني لن أُغيِّر سَير الشريعة ولن أُقيِّد الجهالة. دَعِ الجَهل يستثمِر ذاته حتى يَمَلَّ ذُرِّيَّته. دَعِ العميان يقودون العُميان إلى الحُفرة. ودَعِ المَوتى يدفِنون الموتى حتى تَختنِق الأرض بأثمارِها المريرة. إن مملكتي ليست من هذه الأرض، مملكتي ستكون حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة منكم بمحبَّة، وباحترامٍ لجَمال الحياة، وبِغِبطةٍ وبهجةٍ لتذكاري. ثمَّ التفَتَ إلى يَهوذا فجأةً وقال: تخلَّف عنِّي أيُّها الرَّجُل، إن ممالِكَكم لن تكون في مَمْلكتي. ••• وكان الشَّفق فنَظرَ إلينا وقال: فلنَنْزل من هنا؛ لأن الليل يدنو مِنَّا، فلنسِرْ في النُّور ما دام لنا النور. ثمَّ انحدَر من التِّلال ونحن نتْبَعه. وكان يهوذا يَتبعُنا من بعيد. وعندما وَصلْنا إلى السهول خيَّم الظلام. فقال له توما بن ثيوفانس: يا مُعلِّم، قد دنا الظلام ونحن لا نرى الطريق، فإذا شِئت سِرْ بنا إلى أنوار تلك القرية لعلَّنا نَجِد طعامًا ومأوًى. أما يسوع فأجاب توما قائلًا: قد قُدْتُكم إلى الأعالي عندما كُنتُم جياعًا، وها قد أنزلتُكم إلى السُّهول وقد تضاعَفَ جُوعكم، ولكنَّني لا أقدِر أن أُقيم مَعكم في هذه الليلة لأنَّني أودُّ أن أكونَ وَحدي. فتقدَّم سَمْعان بطرس وقال: يا مُعلِّم، لا تَتْرُكنا نمشي وحدَنا في الظلام، بل ائذَن لنا أن نُقيم معك في هذه الطريق الضَّيِّقة، فالليل وأشباحه لن تُطيلَ إقامَتَها معنا؛ لأن الصَّباح سيَجِدُنا قريبًا إذا كُنتَ تتعطَّف وتظلُّ معنا. فأجاب يسوع وقال: في هذه الليلة ستكون للثَّعالِب أوجارُها ولطُيور السماء أعشاشُها، ولكنَّ ابن الإنسان ليس له على الأرض مَوضِع يَسنُد إليه رأسه. وأنا بالحقيقة أُريد الآن أن أكون وَحدي، فإذا تُقتُم إليَّ فإنكم ستجِدونَني ثانيةً على البُحيرة حيث وَجدتُكم. ••• فانصرَفْنا عنه وقُلوبنا تتمزَّق ألمًا لأننا لم نشأ أن نُفارِقه بِطَوعنا. وكُنَّا بين الهُنيهة والأخرى نقِف ونتلفَّتُ إلى الوراء لنراه في عَظَمة وِحدته سائرًا نحو الغَرْب. أمَّا الرجل الوحيد فينا الذي لم يلتفِتْ إلى الوراء ليرى المُعلِّم في كمال وِحدته فهو يهوذا الإسخريوطي. ومن تلك الساعة ساء خلُق يهوذا وكثُر اضطرابه، وأظلَمَت عيناه بِسُحبٍ كثيفة من الغَدْر والشَّر. يسوع ابن الإنسان
حنَّة أم مريم ميلاد يسوع وُلِدَ يسوع حفيدي هُنا في النَّاصِرة في شهر كانون الأول. وفي الليلة التي وُلِد فيها يسوع زارَنا رجال من المَشرِق، فقد كانوا أعجامًا جاءوا إلى أسدريلون مع قوافل المِيديِّين في طريقهم إلى مصر. وإذ لم يَجدوا مكانًا في الفُندُق طلبوا ملجأً في بيتِنا. وقد رَحَّبتُ بهم وقُلتُ لهم: إن ابنتي وَلَدت صبيًّا في هذه الليلة، وأنتم ولا شكَّ تَغضُّون الطرْفَ عن قُصوري إذا لم أقُم بواجِب الضِّيافة كما يَليق بكم. فشكروني على قَبولهم في منزلي، وبعد العَشاء قالوا لي: نودُّ أن نرى الطِّفل الجديد. وكان ابنُ مريم جميلَ الصورة، وهي أيضًا كانت جميلة. وعندما رأى الأعجام مَريم وطفلَها أخرجوا ذَهبًا وفضَّةً من أكياسهم ومرًّا ولبانًا، وطرحوها كلَّها عند قَدَمَي الطفل. ثمَّ سجدوا وصلُّوا بلُغةٍ غريبةٍ لم نفهمْها. وعندما ذهبتُ بهم إلى غُرفة النوم التي أعددتُها لهم دَخلوا بملء الاحترام ممَّا رأوا وشاهدوا. وعند الصَّباح تركونا وساروا في طريقهم إلى مصر. ولكن قبل انصِرافهم قالوا لي: إن هذا الطفل وإن كان ابنَ يومٍ واحدٍ فإننا قد رأينا نُور إلهِنا في عَيْنيه وابتسامةَ إلهِنا على شَفَتيه. فنرجو منكم أن تَحرُسوه بِعِنايَتكم ليَحرُسكم بِعنايته. وإذ قالوا هذا رَكِبوا جِمالهم ولم نرَهُم بعد ذلك. أمَّا مريم فلم يكُن فرَحُها بِبِكْرها ليُضاهي شدَّةَ دَهشتِها وذُهولها أمامه. فكانت تُحدِّق إليه طويلًا ثمَّ تُدير وَجْهها إلى النَّافذة وتتأمَّل السماء البعيدة مُنذَهِلةً كأنها ترى رُؤًى سماوية. وكان بين قلبِها وقلبي أودِيَةٌ بعيدة العُمق. «مريم أم يسوع». وكان الصبيُّ ينمو بالجَسَد والرُّوح، وكان يختلِف كلَّ الاختلاف عن جميع أتْرابِه؛ فكان مُحِبًّا للوِحدة، يصعُب الحُكم عليه، ولم أقدِر أن أضعَ يدي عليه قط. بيد أنه كان محبوبًا من جميع أهل النَّاصرة. وفي أعماق قلبي عرفتُ السَّبَبَ في ذلك. وكثيرًا ما كان يأخُذ طعامَنا ويُعطيه لعابِري السَّبيل، وكلَّما أعطيتُه شيئًا من الحلوى كان يُعطيه للأولاد رُفقائه قبل أن يَذُوقَه بفمِه. وكان يتسلَّق أشجار البُستان ويقطف أثمارها ليحمِلها إلى غيره ممَّن لا أثمار في بساتينهم. وكثيرًا ما رأيتُه بعيني وهو يتسابق مع الأولاد، وإذ يرى أنه أسرع خُطًى منهم، يتباطأ في سيره حتى يَسبِقوه إلى المَحجَّة قبل أن يصِل هو إليها. وكان في بعض الليالي عندما أقودُه إلى فِراشه يقول لي: أخبري أُمِّي وغيرها أن جسدي فقط ينام، ولكنَّ فكري سَيظلُّ رفيقًا لهم حتى يأتي فِكرهم إلى صباحي. وغير هذا كثير من الآيات العجيبة التي كان يقولها لي في صَبوته، ولكنَّ ضَعف ذاكرتي في شيْخُوخَتي يَحول دون تذكُّرها. واليوم يقولون لي إنَّني لن أراه فيما بعد، ولكن كيف أستطيع أن أُصدِّقَ ما يقولون؟ إنَّني ما زلتُ أسمَع ضحكه. وصوت وَقْع قدميه على أرض الدَّار لا يُفارِق أذُني. وكلَّما قبَّلتُ وَجنَةَ ابنتي أشعُر بعِطر قُبلاته يَفوح في قلبي، وأُحسُّ بجسَده الجميل يتموَّج في ذراعيَّ. ولكن، أليسَ من الغَرابة العَجيبة أن ابنَتي لا تتكلَّم عن ابنِها البِكر أمامي أبدًا؟ وكثيرًا ما يخطُر لي أنَّ شَوقي إليه أعظَمُ من شَوقها؛ لأنها تقِف شاخِصةً أمام نُور النَّهار كأنَّها تمثالٌ من النُّحاس الصامِت في حين أنَّ قلبي يَذوب في صَدْري ويَجري مُنسَكِبًا كالجَدْول، ومن يدري، فلعلَّها تعلَم ما لا أعلَم. ويا ليتَها تُحدِّثُني بما تعرِف من الأسرار الغامِضة عليَّ. يسوع ابن الإنسان
داود أحد أتباعه يسوع العملي إنَّني لم أعرِف معنى خُطَبه وأمثاله حتى فارَقنا. نعم أنا لم أفهم شيئًا من أقواله حتى اتَّخذَتْ كلماتُه أشكالًا حيَّة أمام عيني وكوَّنت ذواتها بأجسادٍ تمشي في مواكب أيامي. وإليكم ما حدَث لي: كنتُ في إحدى الليالي جالسًا في بيتي أتأمَّل وأتذكَّر كلماته وأعماله لأدوِّنَها في كتاب، فدخل ثلاثة لصوصٍ في بيتي، ومع أنَّني عرفتُ أنهم جاءوا ليَسرِقوا ما عندي فإنَّني كنتُ مأخوذًا بالإيمان بما كنتُ أفكِّر فيه إلى هذه الدرجة حتى إنَّني لم أقاوِمْهم بالسَّيف، ولا سألتُهم ماذا تفعلون ها هنا! ولكنِّي واظبتُ على كتابة مُذكِّراتي عن المُعلِّم. وعندما انصرَف اللُّصوص ذكرتُ قوله: من طلب رداءك فأعطِه الثَّوب أيضًا، وفهمتُ معناه. وعندما جلستُ أدوِّن أقواله لم يكُن في الأرض رجلٌ يستطيع أن يحوِّلني عن عملي ولو سرَقَ كُلَّ مُقتنياتي. لأنَّني مع شدَّة حِرصي على مُقتنياتي، واهتمامي بحماية ذاتي، فإني أعرف أين أجِد هذا الكَنز الأعظم. يسوع ابن الإنسان
لوقا في المُرائين قد احتقَر يسوع المُرائين، وبالَغ في تعنيفهم، وكان غضبُه ينقضُّ عليهم انقضاض الصاعِقة، وكان صوته رعدًا في آذانِهم ترتعِش لِهَوله قلوبهم. وقد طلبوا مَوته لشدَّة خوفِهم منه. وكانوا كالمناجِذ في ظُلمة الأرض، يعمَلون على هلاك خطواته، ولكنه لم يسقُط في فِخاخهم. فكان يضحك منهم؛ لأنه عرف جيِّدًا أن الرُّوح يجِب ألا يهزأ بهم، وألا يُسار بهم إلى الحفرة. وكان يُمسك مرآةً بيده، وهنالك يرى الكُسالى والعُرج والعابرين والساقِطين في جوانب الطريق وهم يسيرون إلى القُنَّة. فأشفق على الجميع، ورغِب في أن يرفَعَهم إلى ملء قامته ويحمِل أثقالهم. أجل، فقد تمنَّى كثيرًا لو يتَّكِئ ضعفاؤهم على ذِراع قوَّته. لم يكن شديد الوطأة في حُكمه على الكذَّاب أو اللِّص أو القاتل، ولكنه قضى قضاءً مُبرَمًا على المُرائين الذين يُبرقِعون وجوههم ويُغطُّون أيديهم. كثيرًا ما وقفتُ مفكِّرًا في ذلك القلب الذي كان يَقتبِل جميع القادِمين من صحراء الحياة إلى مَقدِسه العظيم فيهبُهم راحةً وملجأً، ولم يُغلِق بابه إلَّا في وَجْه المُرائين فقط. حدَث مرَّةً فيما نحن جالِسون معه في بُستان الرُّمَّان أنني قلتُ له: يا معلِّم، أنت تصفَح عن الخطأة، وتُعزِّي جميع الضُّعفاء والسُّقَماء، ولا ترفُض إلا المُرائين. فقال لي: قد وضعتَ كلماتِك في مواضِعها عندما دعوتَ الخطَأةَ ضُعفاء وسُقَماء. نعم أنا أصفَح عن ضَعف أجسادِهم وسَقَم أرواحهم؛ لأن قُصورَهم عن القيام بواجِبهم قد وَضع حِملًا على أكتافهم إمَّا من آبائهم أو من جِيرانهم. غير أنَّني لا أحتمِل المُرائين؛ لأنهم يَضعون النَّيْر الثقيل على رِقاب المُخلِصين والطائعين. أما الضُّعفاء الذين تُسمِّيهم خَطَأة، فهم كالفِراخ التي لا رِيش لها الساقِطة من العُش، ولكن المُرائي نَسرٌ جالِس على صخرةٍ يتوقَّع فريسةً بريئةً لينقضَّ عليها. الضُّعَفاء هم رجال ونساء ضائعون في الصحراء، ولكن المُرائي غير ضائع، فهو يعرِف الطريق ولكنَّه يضحك بين الرِّمال والرِّياح. لأجل هذا لا أقبَل المُرائين في شركتي. هكذا تكلَّم مُعلِّمُنا، فلم أفهَم معنى كلامِه في ذلك الوقت ولكنَّني أفهم اليوم. لذلك اجتمع المُراءون في البلاد، وألقَوا القبضَ عليه، وحكَموا بقتلِه، ظانِّين أنهم مُبرَّرون بعدائه لهم. وكانوا يُقرِّبون شريعة موسى في مَجمع اليهود شهادةً وبيِّنةً ضِدَّه. إن الذين يكسِرون الشريعة عند بُزوغ كلِّ فجر، ثمَّ يكسِرونها ثانيةً عند غُروب كلِّ شمس هم الذين عَملوا على مَوته. يسوع ابن الإنسان
متَّى العِظة على الجَبَل في أحد أيام الحصاد دعانا يسوع وفريقًا من أصدقائه الآخرين إلى التِّلال، وكانت الأرض تفوح بعِطرها وقد تزيَّنت بأبهى حُلاها كأنها ابنة ملكٍ عظيم في يوم زِفافها. وكانت السماء عروسًا لها. وعندما وَصل إلى الأعالي وقَف في غابة الغار والهدوء يُجلِّل طلعَته البهيَّة، وقال: استريحوا هنا وافتحوا نوافِذ أفكاركم، ودَوزِنوا أوتار قلوبكم لأنَّ لديَّ كثيرًا أقوله لكم. فاتَّكأنا على بِساط العُشب تُحيط بنا ورود الصَّيف، وجلس يسوع في وَسطنا. فقال يسوع: طُوبى للرصينين بالرُّوح. طُوبى لمن لا تُقيِّدهم مُقتنياتهم؛ لأنهم سيكونون أحرارًا. طُوبى لمن يتذكَّرون آلامهم، وفي آلامهم يرقُبون أفراحَهم. طُوبى للجِياع للحقِّ والجمال؛ لأنَّ مَجاعتهم ستحمِل لهم خُبزًا وعطَشَهم ماءً عذبًا. طُوبى للرءوفين؛ لأنهم سيتعزَّون بلُطفهم ورأفتهم. طُوبى لأنقياء القلب؛ لأنهم سيكونون واحدًا مع الله. طُوبى للرُّحماء؛ لأن الرحمة ستكون في نصيبهم. طُوبى لصانعي السلام؛ لأن أرواحهم ستقطُن فوق المعركة وسيحوِّلون حقول الخزاف إلى جنة غنَّاء. طُوبى للمُطارَدين؛ لأنَّ أقدامهم ستكون سريعةً وسيكونون مُجنَّحين. افرَحوا وابتهِجوا؛ لأنَّكم قد وَجدتُم ملكوت السماوات في أعماقكم. إن مُرنِّمِيَّ القُدَماء قد اضطُهدوا عندما تغنَّوا بذلك الملكوت، وأنتم أيضًا ستُضطَهدون، وفي هذا شرفكم وفيه أجرُكم. أنتم مِلح الأرض، فإذا فسد المِلح فبماذا يصلُح الطعام لقلب الإنسان؟ أنتم نور العالم، فلا تضعوا هذا النور تحت المِكيال، بل فليُشرِق نورُكم من الأعالي لجميع الذين يَنشُدون مدينة الله. لا تظنُّوا أني جئتُ لأُبطِل شرائع الكَتَبة والفريسيِّين؛ لأن أيامي بينكم معدودة وكلِماتي مَحدودة، وليس لديَّ سوى بضع ساعاتٍ سأُكمِل فيها شريعةً ثانيةً وأوضِّح عهدًا جديدًا. قد قِيل لكم ألَّا تقتُلوا. أمَّا أنا فأقول لكم لا تغضَبوا لِغَير سبب. قد قضى عليكم القُدماء أن تحمِلوا عجولكم وحِملانكم وحَمامكم إلى الهَيكل، وأن تذبحوها على المَذبح، لتتغذَّى مشامُّ الرَّبِّ برائحة دُهنها، وتُغفر بذلك زلَّاتكم. أما أنا فأقول لكم: هل تقدِرون أن تُعطوا الرَّبَّ ما كان له منذ البدء، أم هل تُسكِّنون غضبه، وعرشه يسمو على الأعماق الصامتة، وهو يُحوِّط الفضاء بِذراعيه؟ فتِّشوا بالأحرى عن أخيكم وتصالَحوا معه قبل أن تجيئوا إلى الهيكل، وأعطوا جاركم بِمحبَّةٍ مما عندكم؛ لأنه في نفس هؤلاء قد بنى الله هيكلًا لن يُخرَّب، وفي قلبِهم قد أقام مذبحًا لن يُنقَض. قيل لكم: عين بعينٍ وسنٌّ بسن. أما أنا فأقول لكم: لا تُقاوِموا الشر؛ لأن المُقاوَمة تُغذِّي الشرَّ وتَزيدُه قوَّة، ولا ينتقِم لنفسه غير الضعيف. أما الأقوياء بالرُّوح فإنهم يُسامِحون، ولمَن تقَعُ عليه الأذِيَّة شرفٌ سامٍ بصفحِه وسماحِه. الشجرة المُثمِرة وحدَها يهزُّها الناس ويَضربونها بالحِجارة. لا تهتمُّوا بالغد، بل تأمَّلوا باليوم لأنه يكفي اليوم أعجوبته. لا تُبالِغوا في الاعتداد بأنفُسكم عندما تُعطون ممَّا هو لكم، وانظروا بالأَولَى إلى حاجة من تُعطون؛ لأنَّ كلَّ من يُعطي غيره من المُحتاجين يُعطيه الأب نفسَه بأوفَر غزارة. أَعطوا كلَّ مُحتاجٍ حسب حاجته؛ لأنَّ الأب لا يُعطي مِلحًا للعَطشان، ولا حَجرًا للجائع، ولا حليبًا للمفطوم. ولا تُعطوا القُدسات للكلاب، ولا تطرَحوا دُرَرَكم للخنازير؛ لأنكم بهذه العَطايا تَهزءون بها، وهي أيضًا ستهزأُ بِعطاياكم، وقد يحمِلها بُغضها إلى إهلاككم. لا تكنِزوا لكم كُنوزًا تَفسَد أو يَسرِقُها اللصوص، بل اكنِزوا لكم كُنوزًا لا تفسَد ولا تُسرَق، ولكنَّها تزداد جمالًا كُلَّما ازدادت العُيون الناظِرة إليها؛ لأنه حيث يكون كنزك فهنالك قلبك أيضًا. قد قيل لكم: إن القاتل يجِب أن يُسلَّم للسيف، وإن اللِّصَّ يجِب أن يُصلَب، والزانيَةُ يجِب أن تُرجَم. أما أنا فأقول لكم إنَّكم لستُم أبرياء من جريمة القاتِل واللِّصِّ والزانية، وإذا حلَّ العِقاب بأجسادِهم فإنَّ أرواحَكم تُظلم في أعماقكم. بالحقيقة إنه ما من جريمةٍ يرتكِبها رجلٌ فردٌ أو امرأة وحدَها. إن جميع الجرائم يَشترِك الجميع في ارتِكابها. أما الذي يدفَع الجزاء فإنه يقطَع حلقةً من السلسلة المُعلَّقة حول كِعابكم. وقد يكون يدفَع بكآبتِه ثمنَ أفراحِكم الزَّائلة. هكذا تكلَّم يسوع، وقد رغِبتُ في السُّجود أمامه احترامًا وإجلالًا، ولكنَّ خجَلي من ذاتي الحقيرة كان يُمسِك بي، فلم أقدِر أن أتحرَّك من مكاني ولا أن أتلفَّظَ بكلمةٍ واحدة. بيد أنَّني تشجَّعتُ أخيرًا وقلتُ له: إنني أودُّ أن أُصلِّي في هذه الدقيقة، ولكن لساني ثقيل، فعلِّمْني كيف أُصلِّي. فقال يسوع: إذا صَلَّيتُم، فلينطِق حَنينكم بكلمات الصلاة، وفي أعماقي الآن حنين يَودُّ أن يُصلِّي هكذا: أبانا الذي في الأرض والسماوات، ليتقدَّس اسمُك. لتكن مشيئتُك معنا كما هي في الفضاء. أعطِنا من خُبزِك كفايةً ليومنا. برأفتِك اصفَح عنَّا، ووسِّع مَدارِكنا لنصفَح بعضُنا عن بعض. سِر بنا إليك، ومُدَّ يدَك إلينا في الظُّلمة. لأن لك المُلك، وبك قُوَّتَنا وكمالنا. وكان المساء، فنزل بنا يسوع من التِّلال ونحن نتْبَعه جميعًا. أمَّا أنا فكنتُ أتبَعه وأنا أُردِّد صلاته، مُتذكِّرًا جميع أقواله؛ لأنني عرفتُ أن الكلِمات التي تساقَطت في ذلك اليوم قِطَعَ الثَّلج يجِب أن تستقرَّ وتتحجَّرَ كالبلُّور، وأن الأجنِحة التي كانت تخفُق فوق رءوسنا يجِب أن تضرِب الأرض كالحَوافِر الحديدية. يسوع ابن الإنسان
يوحنا بن زبدي في أسماء يسوع المُختلِفة قد أشرتُم إلى أن فريقًا مِنَّا يدعون يسوع «بالمسيح»، وغيرهم «الكلمة»، وآخرون يُسمُّونه «الناصري»، وغيرهم «ابن الإنسان». وها أنا آتٍ لأوضِّح لكم معاني هذه الأسماء كما أُعطي لي أن أفهمها. فالمسيح، الذي كان في قديم الزمان، هو شُعلة الألوهية التي تُقيم في رُوح الإنسان، هو نسمة الحياة التي تزورنا، وتتَّخِذ جسدًا كأجسادنا. هو مشيئة الله. هو الكلمة الأولى التي تتكلَّم بأصواتنا وتقطُن في آذانِنا لنفهَم ونعلَم. وكلمة الربِّ إلهنا قد بنَتْ بيتًا من اللَّحم والعَظم وصارت إنسانًا مِثلك ومثلي. لأنَّنا لم نقدِر أن نسمعَ أنشودة الرِّيح التي لا جسَد لها، ولم نرَ ذاتنا العُظمى سائرةً في الضَّباب. مرارًا كثيرةً جاء المسيح إلى العالم، وقد مشى في بلادٍ كثيرة، بيد أنه حُسِبَ غريبًا بين الناس ومجنونًا أبدًا. ولكن صدى صوته لم يذهب عبثًا؛ لأن ذاكرة الإنسان كثيرًا ما تحتفِظ بما لا يَعبأ له فِكرُه ليحتفِظ به. هذا هو المسيح، أبعد أعماقنا وأرفع أعالينا، الذي يُرافِق الإنسان إلى الأبدية. ألم تَسمعوا به على مفارِق الطُّرُق في الهند، وفي أرض المجوس، وعلى رِمال مصر؟ وهنا في بلادِكم الشمالية قد تغنَّى شعراؤكم القُدَماء ببروميثيوس حامل النار، الذي تحقَّقتْ فيه رغَبات الإنسان، وتحطَّمت به قُضبان القفَص الذي قيَّد رجاء الناس فأُطلِق وصار حُرًّا، وبأورفيوس الذي تجسَّد مع الصوت والقيثارة ليُنعِش الرُّوح في الحيوان والإنسان. أوَلا تعرِفون شيئًا عن سيصر الملك، وزوروستر النَّبي الفارس، اللذين استيقظا من نوم الإنسان القديم ووقفا على فِراش أحلامنا؟ إلَّا أنَّنا نحن أنفسنا نصير مُسَحاء عندما نجتمِع في الهيكل غير المنظور، في ألف سنة، حينئذٍ يخرُج أحدُنا مُتجسِّدًا. بيد أن آذانَنا لا تتحوَّل دائمًا للسَّماع، ولا عُيوننا للنظر. قد وُلِدَ يسوع الناصري ونشأ مثلَنا، وكان أبوه وأمه كوالِدينا، وكان هو إنسانًا مثلنا. ولكن المسيح «الكلمة» الذي كان في البدء الرُّوح التي ترجو لنا أن نحيا حياةً كاملةً، كل هذا قد جاء إلى يسوع واتَّحد معه. فالرُّوح كانت يدُ الرَّب الشعرية، ويسوع كان قِيثارة لها. الرُّوح كانت مزمورًا، ويسوع كان لحنًا له. ويسوع رجُل الناصرة، كان المُضيف والمُمثِّل للمسيح، الذي مشى معنا في الشمس ودعانا أصدقاءه. إنَّ تِلال الجليل وأودِيَتَه لم تسمع في تلك الأيام سوى صوته، وعلى رغم حداثتي في ذلك العهد كنتُ أسير في طريقه وأقتفي خطواته. أجل، قد اقتفيتُ خطواته وسرتُ في طريقه لأسمعَ كلمات المسيح من شَفَتي يسوع الجليلي. إنكم تودُّون بلا شكٍّ أن تعلَموا لماذا يدعوه فريقٌ مِنَّا ابن الإنسان. فهو نفسه قد رغِب في أن نُسمِّيه بهذا الاسم؛ لأنه عرَف مجاعة الإنسان وعطشه، ورأى الإنسان يُفتِّش عن ذاته العُظمى. إن ابن الإنسان هو المسيح الرءوف الذي يُريد أن يكون مع الجميع. هو يسوع النَّذير الذي يرغَب في قيادة جميع إخوته إلى المُختار الحبيب الذي مَسَحه الله بزيتِ قُدُسه، هو الكلمة التي كان في البدء مع الله. إن يسوع الجليلي مُقِيم في قلبي، وهو الإنسان المُتَسامي على الناس، والشاعر الذي يصنع الشُّعَراء من جميعنا، بل هو الرُّوح التي تقرَع على أبواب أرواحنا لنستَيقِظ وننهَض ونخرُج لمُلاقاة الحقيقة العارِية الواثِقة بنفسها. يسوع ابن الإنسان
كاهن شابٌّ في كفرناحوم يسوع الساحر كان ساحرًا مُلتويًا مُعوجًّا، وعرَّافًا يُضلِّل البُسَطاء بسحرِه وتعزيمه، وكان يُشعوِذ بكلمات أنبيائنا ومَقادِس أجدادنا. وكان يطلُب شهوده حتى من الأموات، ويتَّخِذ سُلطانه وأعوانه من القبور الصامِتة. وكان يُفتِّش عن نِساء أورشليم وبنات المَزارِع بِدَهاء العَناكِب التي تُفتِّش عن الذُّباب، وكان يصطادُهنَّ بِفِخاخِه. لأنَّ النِّساء ضعيفاتٍ فارِغات الرءوس، وهنَّ يتبعنَ الرجل الذي تَطمئنُّ إلى كلِماته العَذْبة أهواؤهُنَّ الباقية. ولولا هؤلاء النِّساء، السَّقيمات العقول، والمأخوذات برُوحه الشِّرِّيرة، لكان اسمه قد انمحى من ذاكِرة الإنسان. ومن هُم الرجال الذين تَبِعوه؟ كانوا من الطبقة المَكدونة والمَدوسَة بالأقدام، ولم يخطُر لهم قطُّ أن يثوروا على أسيادِهم وهم على ما كانوا عليه من الجَهل والخوف. ولكنه عندما وعدَهم بالمراكِز العالِية في ملكوت سَرابه استسلَموا لأوهامه كما يستسلِم الطِّين للخزَّاف. أوَلا تعلمون أن العبد لا يرى غير السيادة في أحلامه، والضعيف الخامِل لا يرى نفسه إلَّا أسدًا؟ فالجليليُّ كان مُشعوِذًا خدَّاعًا، وقد صفَح عن خطايا جميع الخُطاةِ ليَسمَع التَّهليل والهِتاف «باوصنا» من أفواههم القَذِرة. وقد أطعم قلوب اليائسين والبُؤَساء ليكون له آذان كافية لسَماع صَوتِه وجيش يأتمِر بأوامره. وقد كسر السبت مع الذين يكسِرونه ليكسَب مُعاضَدَةَ الخارِجين على الشريعة، وتكلَّم بالسُّوء على رؤساء كهنَتِنا ليلفِتَ أنظار المَجلِس الأعلى إليه، ويزيد في شُهرتِه عن طريق المُعارَضة. طالما صرَّحت بأنني أبغَضُ ذلك الرجل، نعم أبغضُه أكثرَ من بُغضي للرُّومانيِّين الذين يحكمُون بلادنا. حتى إن مَجيئه كان من الناصِرة، وهي القرية التي لعَنَها أنبياؤنا، فصارت مزبلةً للأمم، ولا يُمكن أن يخرج منها شيء صالح. يسوع ابن الإنسان
لاوي غَنيٌّ بِجوار النَّاصِرة يسوع النَّجَّار الماهِر كان نجَّارًا ماهرًا، فالأبواب التي صنعها لم يَستطِع لصٌّ أن يخلَعها، والنوافذ التي عمِلَها كانت حاضِرةً أبدًا لتنفتِح للرِّيح الشَّرقيَّة والغربية. كان يصنَع الصناديق من خشب الأَرُزِّ فتأتي صقيلة مَتينة، والمَحارِيث والسفافيد من السِّنديان، فتجيء قويةً سهلة الانقِياد في يدِ الفلاح. كان يحفُر المَقارئ (جمع مِقْرأ) لمَجامِعنا من خشب التُّوت الذهبي، وعلى جانِبَي الخَشبتَين اللتين يُوضَع عليهما الكِتاب المُقدَّس كان يضع جَناحَين مُنبَسِطَين، وتحتهما رءوس ثِيرانٍ وحمام وغزلان ذات عيونٍ كبيرة. كلُّ هذا كان يتحدَّى في صُنعه طريقة الكَلَدانيِّين واليونان، ولكن كان في فنِّه شيء لم يكُن لا كَلَدانيًّا ولا يونانيًّا. قد اشتغلَت في بناء بيْتي هذا أيدٍ كثيرة مُنذ ثلاثين سنة؛ لأني فتَّشتُ عن البنَّائين والنجَّارين في جميع قُرى الجليل، وكانت لكلٍّ منهم مَهارة البنَّاء وفنِّه، وكنتُ راضيًا قانعًا بكلِّ ما صنعوه لي. ولكن، هلمَّ وانظر هذين البابَين وتلك النَّافِذة التي صنعها يسوع الناصري، فهي بدقَّة صُنعها وثَباتها تهزأ بكلِّ ما في بيتي. أفلا ترى أن هذين البابين يختلِفان عن جميع الأبواب التي في البيت؟ وهذه النَّافذة المفتوحة للشرق، ألا تختلِف عن بقيَّة النوافذ؟ إن جميع أبوابي ونوافذي تَستسلِم لشريعة السنين، ما خلا هذه التي عمِلَها هو، فهي وحدَها ثابتة أمام عناصِر الطبيعة. تأمَّل هذه العَوارِض المُتقاطعة، كيف وضع إحداها فوق الأخرى، وهذه المسامير كيف أُنزِلت من الوجه الواحد في العارِضة فخرجت من الوجه الثاني، وهنالك لُويَت بدقَّةٍ حتى لا تتزحزح من موضعها. والعجيب الغريب في هذه القضية أن ذلك العامِل الذي كان يَستحقُّ أُجرَة رَجُلين لم يَقبِض إلَّا أُجرَةَ رجلٍ واحد فقط، وذلك العامل نفسه هو في عقيدة البعض نَبيٌّ في بني إسرائيل. فلو عرفتُ في ذلك الحين أن هذا الشابَّ الحامِلَ المِنشار والفأرة هو نبيٌّ لكنتُ طلبتُ إليه أن يتكلَّم عِوَضًا عن أن يشتَغِل، ولكنتُ دفعتُ له الأُجرة مُضاعفة على كلِماته. وحتى الساعة لا يزال عُمَّال كثيرون يَشتغلون في بيتي وحُقولي، ولكن كيفَ أقدِر أن أُميِّزَ بين الرَّجُل الذي يدُه على مِحراثه والرجل الذي يدُ الله على يدِه؟ نعم، كيف أستطيع أن أعرِف يَدَ الله؟ يسوع ابن الإنسان
راعٍ في جنوب لِبنان مثل رأيتُه لأوَّل مرَّةٍ في آخر الصيف يمشي على تلك الطريق مع ثلاثة رجال من رِفاقه، وكان الوقت عند المساء، فوقف هُنالك يتأمَّل الطريق في آخر المرْج. أما أنا فكنتُ أنفُخ في مِزماري، وقَطيعي يرعى حواليَّ. وعِندما وقفتُ نهضتُ وسرتُ إليه ووقفتُ أمامه. فسألني قائلًا: أينَ قَبر أليشع؟ أليسَ قَريبًا من هذا المكان؟ فأجبتُه: هو هناك يا سيِّدي، تحت تلك الرَّجْمة. وما بَرَح عابرو الطريق حتى اليوم يحمِل كلٌّ منهم حَجرًا ويضَعُه في هذه التلَّة. فشكَرَني وسار في طريقِه ورفقاؤه يَسيرون وراءه. وبعد ثلاثة أيامٍ قال لي غملائيل الذي كان راعيًا مِثلي: إن الرَّجُل الذي مرَّ بك هو نبيٌّ في اليهودية، ولكنَّني لم أُصدِّقْه، بيد أن ذكرى ذلك الرَّجُل لم تُفارِق ذاكرتي. وعندما جاء الربيع مرَّ يسوع بهذا المَرج ثانية، وكان في هذه المرة وحده. أما أنا فلم أكن أنفُخ في مزماري في ذلك اليوم؛ لأنني كنتُ قد أضعتُ خروفًا وكنتُ حزينًا تملأ غُيوم الكآبة سماءَ قلْبي. وعندما رأيتُه مشيتُ ووقفتُ أمامه صامتًا؛ لأنِّي أردتُ أن أتعزَّى. فنَظَر إليَّ وقال: أنتَ لا تنفُخ في مِزمارك اليوم، فمن أين جاءتِ الكآبة في عينيك؟ فأجبتُه: قد ضاع خروف من خرافي، وقد فتَّشتُ عنه في كلِّ مكانٍ فلم أجِده ولا أعلم ماذا أعمل. فسكتَ هُنيهةً ثمَّ نظر إليَّ مُبتسمًا وقال: انتظِرني هنا رَيْثما أجِد لك خروفك. وسار في طريقه حتى اختفى بين التِّلال. وبعد ساعةٍ من الزَّمان رجع، وخروفي يمشي إلى جانبه، وفيما هو واقف أمامي كان الخروف ينظُر إلى وَجهِه كما نظرتُ أنا. فأقبلتُ على الخروف أضمُّه إلى صدري بفرحٍ عظيم. فوضَع يدَه على كتفي وقال: إنك منذ اليوم ستحبُّ هذا الخروف أكثر من جميع الخِراف في قطيعك؛ لأنه كان ضالًّا فَوُجِد. ثمَّ ضممتُ خروفي ثانيةً إلى صدري بفرحٍ عظيم، وكان الخروف يدنو منِّي وأنا صامتٌ لا أنبِس بِبِنتِ شَفَة. وعندما رفعتُ رأسي لأشكُر يسوع رأيتُه بعيدًا عنِّي، فلم أجسُر على أن أتبَعَه. يسوع ابن الإنسان
يُوحَنَّا المِعمدان لواحدٍ من تلاميذه إنَّني لستُ صامتًا في هذا السِّجن المُظلم في حين أنَّ صوت يسوع يتعالى في ساحة الحرب، ولا يقدِر أحدٌ أن يُلقي عليَّ يدًا أو يقيِّد حرِّيَّتي طالما أنه هو حُر. يقولون لي إن الأفاعي تنساب حول حقويه، ولكنَّني أُجيب أن الأفاعي ستُوقِظ قوَّته ليَسحَقَها بقدَميه. إنني لستُ سوى رعدٍ في برقِه. ومع أنَّني تكلَّمتُ أوَّلًا فإن الكلِمة التي نطقتُ بها هي كلِمتُه، والغاية التي سعيتُ إليها هي غايته. قد قبضوا عليَّ بدون إنذار، ولعلَّهم يُلقون أيديَهم عليه أيضًا ولكنَّهم لن يفعلوا ذلك قبل أن يتلفَّظ بكلِّ أقواله، وسيغلِبُهم. ستمرُّ عربَتُه فوقَهم، وستدوسُهم حوافِر خُيوله، وسيكون مُنتصِرًا. سيخرجون إليه بسيوفٍ وحِراب، ولكنه سيُجابِههم بقوَّة الرُّوح. سيَجري دَمُه على الأرض، ولكن قاتِليه أنفُسهم سيعرفون جِراحه وآلامها، وسيتعمَّدُون بدُمُوعهم حتى يَتطهَّروا من خطاياهم. إن جُيوشَهم ستهجِم على مُدُنه بالمَجانِق الحديدية، ولكنهم سيغرَقون في طريقهم في نهر الأردن. أما أسوارُه وأبراجُه فستزداد ارتِفاعًا، ودُروع مُحاربيه سيَتضاعَف بريقُها في أشعةِ الشمس. يقولون إنَّني مُتواطئ معه لنحُضَّ الشعب على النُّهوض للثورة ضِدَّ مملكة اليهودية. وها أنا أُجيب. ويا ليتَ لي نيرانًا أصوغ منها كلِماتي: إذا كانوا يَحسَبون بؤرة الإثم هذه مَملَكَة، إذًا فلتخرَب ولتَصِرْ إلى لا شيء، وليَحلَّ بها ما حلَّ بصادوم وعمورة، ولينْسَ الربُّ هذا الجِنس، ولتتحوَّل هذه الأرض إلى رماد. نعم أنا حليف يسوع الناصري وراء هذه الجُدران الغليظة في سجني، وهو سيقود جُيوشي بما فيها من الفُرسان والمُشاة. وأنا نفسي، وإن كنتُ قائدًا في مُعسكر الرَّب، فإنني لستُ أهلًا لأن أحلَّ سُيور حِذائه. اذهبوا إليه، وأعيدوا كلِماتي على مَسمَعَيه، واطلبوا إليه باسمي أن يُعزِّيكم ويبارِكَكم. إنَّني لن أُقيم طويلًا في هذا المكان؛ لأنني في كلِّ ليلةٍ بين اليَقظة واليَقظة أشعُر بأقدامٍ بطيئةٍ تدُوس على الجَسَد بخطواتٍ مُتناسِقة، وعندما أُصغي جيِّدًا أسمَع قطَرات المَطَر تتساقَط على جسدي. اذهبوا إلى يسوع وقولوا له: يوحنَّا الكدورني الذي تمتلئ نفسُه من الأشباح ثمَّ يُفرِغُها ثانية، يُصلِّي من أجلك، في حين أن حفَّار القبور يقِف قريبًا منه، والسيَّاف يمدُّ يدَه لقبضِ أُجرتِه. يسوع ابن الإنسان
يوسُف الذي من الرَّامة المَطالِب الأوَّليَّة ليسوع تَودُّون أن تَعرِفوا المَطلبَ الأوَّل ليسوع، وها أنا بِفرحٍ أخبِركم، ولكن ما من رجلٍ يستطيع أن يُلامس بأصابِعه حياة الكَرمة المُباركة، أو ينظُر بعينيه العُصارة المُقدَّسة التي تغذِّي أغصانها. ومع أنني تذوَّقتُ عِنب هذه الكَرمة، وشربتُ الخمرة الجديدة من المَعصرة، فأنا عاجِز عن أن أُخبِركم بكلِّ شيء. ولكنَّني أقدِر أن أُحدِّثَكم بما أعرِفه عنه: إن مُعلِّمَنا وَحبيبنا لم يَعِش سوى ثلاثة فصولٍ من فُصول الأنبياء، وأنا أعني ربيعَ إنشاده، وصيفَ وَجْده، وخريفَ آلامه، وكلُّ فصلٍ من هذه الفصول كان عبارةً عن ألف سنة. فربيع إنشادِه قضاه مُترنِّمًا في الجليل، فهنالك كان يَجمع مُحبِّيه حواليه، وعلى شواطئ البُحيرة الخضراء تكلَّم أوَّلًا عن الأب، وعن العِتق والحُرية. على بحيرة الجليل خَسِرنا أنفسنا لنجِد طريقنا إلى الأب. أواه، ما أتفَهَ ما خسِرنا بالنسبة إلى ما رَبِحنا! هنالك تَرنُّم الملائكة في آذاننا وأمرونا أن نهجُر الأرض المُجدِبة لنحظى بفردَوس رغبات القلب. هنالك كان يتكلَّم عن الحقول والمراعي الخضراء وعن مُنحدَرات لبنان حيث تختبئ الزنابِق الخضراء لكيلا تَفطَن لها القوافِل المارَّة في غُبار الوادي. وهنالك كان يُخاطِبنا عن العَوسَج البريِّ الذي يبتسِم في الشمس ويُقرِّب بَخوره للرِّيح المُجتازة به. وكان يقول: إن الزَّنابِق والعَوسَج تعيش يومًا واحدًا، ولكن ذلك اليوم هو الأبدية التي تُقضى بالحُريَّة. وفي أحد الأمساء، وقد جلَسْنا إلى حافَة جَدول صغير، قال لنا: انظروا إلى الجَدْول وأصغوا إلى مُوسيقاه، فهو يَنشُد أبدًا. ومع أنه يَنشُد البحر أبدًا فهو يترنَّم بأسراره من الظهيرة إلى الظهيرة. أودُّ لو أنكم تَنشُدون الأب كما يَنشُد هذا الجدول بحرَه. ثمَّ جاء صيْفُ وَجْدهِ، وبلَغَت إلينا حرارة مَحبَّته، فحصر كُلَّ كلامه بالآخرين، بالجار وعابِر السبيل والغريب ورُفقاء الصَّبْوة. فخاطَبَنا عن السائح المُسافِر من الشرق إلى مصر، والفلَّاح الراجِع بِثيرانه إلى بَيته عند المساء، وضيفُ الساعة الذي يقودُه أغَلَسُ الظلام إلى بابنا. وكان يقول: إن جارَكم هو ذاتُكم غيرُ المعروفة، تتجسَّد أمامكم لتَصير منظورة. فمِياهُكم الهادئة ستعكِس لكم وَجهه، وإذا تأمَّلتُم بها جيِّدًا فأنتم ولا شكَّ ستنظرونَ وجوهكم. وإذا أصغَيتُم في سكينة الليل فإنكم ستسمعونَه مُتكلِّمًا وسيكون خَفَقان قلوبكم في كلماته. فاعمَلوا به نفسَ ما تودُّون أن يعمَلَه هو بِكم. هذه هي شريعتي، وأنا أقولها لكم ولأولادكم، وهم يقولونها لأولادهم حتى تُنفَق كُنوز الزمان وتضمَحِلَّ خزائن الأجيال. وفي يومٍ ثانٍ قال لنا: لا تكُن وحدك في حياتك لأنك تعيش في أعمال الآخرين، وهم إن جهِلوا يعيشون معك سحابةَ أيامك. إنهم لا يَقترِفون جريمةً من غير أن تكون يدُك مع أيديهم. وهم لا يَسقُطون من غير أن تسقُطَ معهم، ولا يَنهضون إلا وأنت تنهَض معهم. إن طريقهم إلى المَقدِس هي طريقك، وإذا نَشزوا إلى قَفْر السقوط فأنت أيضًا ناشِزٌ معهم. أنت وَقريبك بِزْرتان مَزروعتان في حقلٍ واحد. وأنتما تَنمُوان معًا وتتموَّجان معًا أمام الريح، ولكن لا يَستطيع أحدُكما أن يدَّعي مِلكيَّة الحقل؛ لأن البِزرة السائرة إلى النَّماء لا تقدِر أن تدَّعي حتى ولا مِلكيَّة وَجدِها وافتِتانها. اليوم أنا معكم، ولكنني غدًا أمضي إلى الغرب، غير أنَّني قبل أن أمضي أقول لكم: إن جاركم هو ذاتُكم غير المعروفة، تتجسَّد أمامكم لتصير منظورة. فانشُدوه بمحبَّةٍ لتعرفوا أنفسكم؛ لأنكم بهذه المعرفة فقط تستطيعون أن تكونوا إخوةً لي. ثمَّ جاء خريف آلامه. فخاطبنا عن الحرية، كما كان يُخاطبنا في الجليل في ربيع إنشاده، ولكن كلماته في هذه المرة كانت تنشُد أعمقَ أعماقِ فَهْمنا. فكان يتكلَّم عن الأوراق التي لا تُنشِد أناشيدها إلا إذا حرَّكتها الرِّياح. وعن الإنسان مُشبِّهًا إيَّاه بكأسٍ يملأها ملاك الخِدمة اليوم لتُبرِد عطش ملاك آخر. ومع ذلك فسواء كانت هذه الكأس مُمتلئةً أو فارِغةً فإنها تظلُّ لامِعةً ببلُّورها على مائدة العليِّ القديرِ. ومن أقواله: أنتم الكأس وأنتم الخمرة. فاشربوا من خمرة أنفسكم حتى الثُّمالة، أو تذكَّروني فتُروى غُلَّةُ عطشِكم. وفي طريقنا إلى الجنوب قال لنا: إن أورشليم، الجالِسة بكبرياءٍ على قُنَّة مَجدِها، ستنحدِر إلى أعماق جَهنَّم الوادي المُظلم، وفي وسط خرابِها سأقِف وحيدًا. وسيتحوَّل الهيكل إلى غُبار ورماد، وحول أروِقَتِه ستسمَعون صُراخ الأرامل والأيتام، والناس في عَجَلَتهم للهرَب سيتعامَون عن رؤية وجوه إخوتهم؛ لأن الخوف سيشملُهم جميعًا. ولكن حتى في ذلك الوقت، إذا اجتمع اثنان منكم وتلفَّظا باسمي ونظرًا إلى الغرب، فإنكم تُبصِرونَني فتتراجَع أصداء كلِماتي هذه إلى آذانِكم. وعندَما وَصلْنا إلى تلَّة بيت عنيا قال: لِنَمضِ إلى أورشليم، فإن المدينة تنتظرُنا، سأدخُل البوابة راكِبًا على جَحْش، وسأُخاطب الجموع. إن الرَّاغبين في تقييدي كثيرون، وأكثر منهم النافِخون في النَّار ليَحرقوني، ولكنكم بِموتي ستجِدون حياة وستكونون أحرارًا. إنهم يطلبون نسمة الحياة الحائمة بين القلب والفكر كما يحوم الخطَّاف بين الحَقل وعُشِّه، ولكن نسمة حياتي قد هرَبت منهم ولذلك لن يَغلِبوني. إن الأسوار التي بناها الأب حولي لن تسقُط، والأرض التي قدَّسها في كِياني لن تتنجَّس. فإذا جاء الفجر فإن الشمس ستُتوِّج رأسي فأجتمِع بكم لمُجابهة النهار، وذلك النهار سيكون طويلًا ولن يرى العالَم مساءه. يقول الكَتَبة والفريسيُّون إن الأرض مُتعطِّشة لدَمي، ويَسرُّني أن أُبَرِّد عطشَ الأرض بدَمي، ولكن نُقَط هذا الدَّم ستنهَض بأغصان السَّنديان والقَيقَب، وستحمل الرياح الشرقية بلُّوطها إلى جميع البُلدان. ثمَّ قال أيضًا: إن اليهودية تُريد مَلِكًا لتَهجم على جيوش رومة. إنَّني لا أُريد أن أكون مَلِكًا لها؛ لأن تِيجان صُهيون قد صُنِعت للجِباه الصغيرة، وخاتَم سُليمان صغير على هذه الأصبع. تأمَّلوا يدي، ألا تَرَون أنها أقوى من أن تحمِل صولجانًا، وأقدَرُ من أن تَمتَشِق حُسامًا؟ ألا إنَّني لا أُريد أن أُثير السوريَّ ضِدَّ الروماني. ولكن أنتم بكلِماتي ستُوقِظون المدينة الغافِلة، فتُخاطبها روحي في فجرِها الثاني. إن كلماتي ستؤلِّفُ جيشًا لا تراه العيون، حافلًا بالخُيول والعَرَبات، وبغَير فأسٍ ولا حَرْبة سأغلِب كهَنة أورشليم، وأنتصِر على القياصِرة. إنَّني لا أجلِس على عرشٍ قد جلس عليه العبيد ليَحكُموا غيرَهم من العبيد. كلَّا، ولا أُريد أن أثور على أبناء إيطاليا. ولكنَّني سأكون عاصِفةً في سمائهم، وأُنشودةً في نفسهم. وسيذكُرُني الجميع، سيدعوني الجميع يسوع الممسوح. جميع هذه الأقوال قالَها يسوع خارِج أسوار أورشليم قبل أن يدخُل المدينة. وقد انطبعَتْ كلماتُه على صَفَحات القلوب كأنما حُفِرت بالأزاميل. يسوع ابن الإنسان
نثنائيل لم يكن يسوع وَدِيعًا يقولون إن يسوع الناصري كان وضيعًا وديعًا. ويقولون إنه كان رَجُلًا بارًّا عادلًا، ولكنه كان ضعيفًا، وإنه كثيرًا ما كان يتحيَّر وينذهِل أمام الأقوياء والأشدَّاء، وأنه عندما كان يقِف أمام ذَوي السُّلطان لم يكن سوى حمَلٍ أمام سباع. أما أنا فأقول: إن يسوع كان له سُلطان فوق جميع الناس، وإنه عرف قوته وأعلنها بين تِلال الجليل، وفي مُدُن اليهودية وفينيقية. فأيُّ رجل ضعيف مُستسلِم يقول: أنا الحياة، وأنا طريق الحق؟ وأي رَجُل وديعٍ وحقير يجرؤ أن يقول: أنا في الله أبينا وإلَهنا الأبُ فِيَّ؟ وأيُّ رجُلٍ لا يعرِف قوَّته يقول: إن من لا يؤمِن بهذه الحياة ولا بالحياة الأبديَّة؟ وأيُّ رَجُلٍ لا يثِق بالغد ويقدِر أن يُصرِّح بمثل هذا الإعلان: إن عالمكم سيزول ويتحوَّل إلى رماد تُذريه الرِّيح قبل أن تزول كلمة من كلماتي؟ أم هل شكٌّ في قوَّته عندما قال للذين حمَلوا الزانِية إليه ليجرِّبوه: من كان منكم بلا خطيئةٍ فليرمِها بِحجَر؟ وهل خاف ذوي السُّلطان عندما طرَد الصَّيارِفة من ساحة الهَيكل مع أنهم كانوا من الكَهَنة؟ وهل كان مقصوص الجَناحين عندما صرَخ قائلًا: إن مَملَكَتي فوق مَمالِكِكم الأرضية؟ أم هل كان يَختبئ بالألفاظ عندما قال المرَّةَ بعد المرة: انقُضوا هذا الهَيكل وأنا أُعيد بناءه بثلاثة أيام؟ وهل يستطيع الجَبان أن يَهُزَّ يمينه في وجه ذَوي السُّلطان فيدعوهم: كذَبَة أدْنِياء وَقَذِرين مُنجَّسين؟ إن رجلًا كانت له الجُرأة على قول مِثل هذا لأسياد اليهودية لا يُمكن أن يكون وَديعًا، إلا أن النَّسْر لا يَبني عُشَّه في الصفصاف الباكي، والسَّبُع لا يُفتَّش عن عرينه بين الأدغال. قد سئمتُ والتهبَتْ أحشائي من قول ضُعفاء القلوب، إن يسوع كان وَضيعًا وَديعًا ليبرِّروا ضِعَتهم، وصغارة قلوبهم، وخصوصًا عندما أسمَع المَدوسين بالأقدام يَنشُدون تَعزِيَتهم بوَضعِ المُعلِّم في صُفوفهم. نعم، قد ضجِر قلبي من أمثال هؤلاء، فأنا أُبَشِّر بصيَّادٍ قدير ورُوحٍ جبليَّة لا تعرِف الغَلَبة. يسوع ابن الإنسان
عسَّاف المُلقَّب بخَطيب صُور خطاب يسوع ماذا أقول عن خِطابه؟ لا شكَّ أن قوَّةً خَفِيَّة في شخصيَّته كانت تُسلِّح كلماته بسِحرٍ عجيب، فتأخُذ بمَجامِع قلوب سامِعيه؛ لأنه كان جميل الصُّورة بَهيَّ المُحيَّا. وكان الرجال والنساء يُحدِّقون إلى صُورته الكامِلة أكثرَ ممَّا يُصغون إلى مَباحِثه. ولكنه كثيرًا ما كان يتكلَّم بقوَّةِ رُوحٍ عجيبة، وتلك الرُّوح كان لها السُّلطان الكامِل على كلِّ من سَمِعه. قد سمِعتُ في حَداثَتي خُطباء روما وأثينا والإسكندرية، ولكنَّ الناصري النَّذِير كان يختلِف كلَّ الاختلاف عن جميعهم. حصَر أولئك هَمَّهم بترتيب الكلام بصورة تَسْحَر الآذان، ولكنك إذ تَسمَع الناصريَّ تشعُر بأن قلبك يُفارِقك في الحال ويسير هائمًا في أصقاعٍ لم يزُرْها أحدٌ بعد. فهو يَقصُّ عليك قصَّةً أو يُخاطبك بمَثَل، ولكنَّ سُورية لم تَسمَع بمثلِ قِصَصه وأمثاله في كلِّ تاريخها؛ لأنه كان يَحوك أمثالَه وقِصَصه من خُيوط الفصول كما يَحوك الزَّمان نَسيجَه من خُيوط السِّنين والأجيال. وإليك مِثالًا من طريقته في بدء قِصَصِه: خرَج الزَّارع ليزرَع زرعَه. أو كان لِرَجُلٍ غني كُروم عديدة. أو راعٍ عدَّ خِرافَه عندَ المساء فوجَد خروفًا ناقصًا … ومثلُ هذه الكلمات تحمِل سامِعيه إلى ذَواتهم السَّاذَجَة وإلى أيامِهم القديمة الهادئة. كلُّنا عند التَّحقيق زارع. وجميعنا نعشَق الكرمة. وفي مراعي ذَاكِرتنا يُوجَد راعٍ وقطيع وخروف ضال. وهنالك أيضًا مِحراث ومَعْصرة وبَيْدَر. أجل، قد عرَف النَّاصِريُّ يَنبوع ذاتنا القديمة وخبَر الخُيوط التي حاك القدير نَسيجَنا منها. إن خُطباء اليونان والرُّومان خاطَبوا الناس عن الحياة في نظر الفِكر، ولكن الناصِريَّ تكلَّم عن حَنينٍ كائن في أعماق القلب. أولئك رأوا الحياة بِعُيونٍ قد تكون أنقى قليلًا من عَينيك وعينيَّ، أمَّا هو فقد رأى الحياة بِنور الله. وكثيرًا ما أُفكِّر في أنه خاطَب الجموع كما يُخاطِب الجبلُ السَّهلَ الوَسيع. وكان في خِطابه قوَّةٌ لم تصِل إليها أفكار أثينا وروما. يسوع ابن الإنسان
سابا الأنطاكي يصِف شاوول الطرسوسي سمِعت في هذا اليوم شاوول الطرسوسي يُبشِّر بالمسيح لليهود في هذه المدينة. فهو يُسمِّي نفسه بولس الآن، رسول الأُمم. قد عرفتُ هذا الرَّجُل في حداثَتي، وكان في تلك الأيام يَضْطَهد أصدقاء الناصري، وأنا ما زلتُ أذكُر جيِّدًا مسرَّته ورضاه إذ كان يتأمَّل أصحابه وهم يَرجُمون الشابَّ النُّوراني إستفانوس. إن بولس هذا رَجُل عجيب غريب، إن نفسه ليس بنفس الرَّجُل الحُر، فهو كثيرًا ما يبدو كالحَيَوان في الغابة، طارَدَه الصيَّادون وجَرحُوه فجاء يَنشُد كهفًا يُخفي ألمَه عن العالَم. وهو لا يتكلَّم عن يسوع ولا يُعيد أقواله، بل يَعِظُ عن ماسيًا الذي أنبأت عنه الأنبياء. ومع أنه من عُلَماء اليهود فهو يُخاطِب أصحابه اليهود باليونانية، ويونانِيَّته عَرْجاء، وهو لا يُحسِن اختيار ألفاظه لمَواضِعها. بيد أنه رجل ذو قوةٍ خفيَّة، والناس يؤيِّدونه بإقبالهم على سَماعه، وكثيرًا ما يؤكد لهم أمورًا عن نفسه لا يَثِق بها. فنحن الذين عرفْنا يسوع وسمِعنا خُطَبه نقول إنه علَّم الإنسان كيف يُحطِّم قيود عُبوديَّته ليتحرَّرَ من سُجون أمسه. ولكن بولس هذا يصنع قيودًا جديدةً لرجل الغد. فهو يضرِب بمِطرقَتِه على السَّندان باسم رَجُلٍ هو نفسه لا يعرِفه. فالناصري يُرَغِّب إلينا أن نعيش الساعة بِوَجدٍ وشوق. أما رجل طرسوس هذا فإنه يأمُرنا بالمُحافظة على الشرائع المكتوبة في الكُتُب القديمة. قد منح يَسوع من نسمة روحه للميِّت الفاقد النسمة، وفي وحدة لياليَّ أؤمن وأفهَم. وعندما كان يجلِس إلى المائدة كان يَقصُّ على الجالسين معه قِصصًا تزيد في بهجتِهم وسعادَتِهم ولذَّةِ طعامِهم وشرابهم. ولكن بولس يُحدِّد لنا رغيفنا وكأسنا. فاسمحوا لي الآن أن أُدير عينيَّ إلى الطريق الأخرى. يسوع ابن الإنسان
سالومة إلى صديقةٍ لها رغبة لم تتحقَّق كان كالحور اللامع في الشمس، وكالبُحيرة بين التِّلال الوحيدة مُشرِقًا في الشمس، وكان كالثَّلج على رءوس الجِبال أبيض أبيض في الشمس. نعم، كان مثل هذه جميعها وقد أحببتُه، بيد أنني كنتُ أخاف أن أجلِسَ في حَضرته. وكنتُ أودُّ أن أقول له: قد قتلتُ صديقك في ساعة هوًى في نفسي، فهل تغفِر لي خَطيئتي وأنت الرَّحوم الصَّفوح؟ أفلا تحلُّ قيود شبابي من عماوَةِ عملي لأمشي حُرَّةً طليقةً في نُورِك العظيم؟ إنني واثقةٌ بأنه كان يصفَح عن رَقْصتي للحصول على رأس صديقه البار، إنني واثِقة بأنه كان رأى فيَّ موضوعًا من مواضيع تعاليمه؛ لأنه لم يكن في العالَم من وادي مَجاعةٍ لم يَعبُرْه، ولا صحراء عطَشٍ لم يقطَعْها. بلى، قد كان كالحُور الجميل، وكالبُحَيْرات بين التِّلال، وكالثَّلجِ على الجبال. وكنتُ أتُوق لتَبريد عطَش شَفَتَي في ثنايا ثَوبه. بيد أنه كان بعيدًا عني، وأنا كنتُ خَجولة، وكانت أمي تَمنَعُني عن الذَّهاب إليه كلَّما دعاني حنيني إلى السَّير وراءه. وكلَّما مرَّ بنا كان قلبي يذوب من جماله، ولكن أمي كانت تقطُب حاجِبيها احتقارًا، وتأمُرني بالتحوُّل عن النافذة إلى غُرفتي، وكانت تصرُخ بأعلى صوتها قائلةً: ومن يكون هذا سوى أَكول جَرادٍ آخر من الصحراء! إن هو إلا مُستهزِئ خائن، ومُشاغِب يتعيَّش بإثارة نِيران العِصيان، لسلْبِ صَولَجانِنا وتاجِنا، وحمَل الثَّعالب وبناتِ آوَى من بلاده اللَّعينة لتعوِي في قُصورِنا وتجلِس على عرشِنا. اذهبي واحجُبي وَجهك من هذا النهار، وانتظري يومَ يَسقُط رأسُه، ولكن ليس على طبقِك. كلُّ هذا قالته والِدَتي، ولكن قلبي لم يحفَظ كلامها، فقد أحببتُه سِرًّا وكان حُبُّه يُمنطِق نَومي باللَّهيب. قد مضى اليوم، وقد ذهب بذَهابه شيء عظيم كان فيَّ، ومن يدري، فقد يكون شبابي قد ذَهَب منِّي لأنه لم يُطِق أن يُقيم هنا بعد أن رأى إلَهَ الشَّباب قتيلًا. يسوع ابن الإنسان
راحيل إحدى التِّلميذات هل كان يَسوع رَجُلًا أم مُفَكِّرًا؟ كثيرًا ما أفكِّر مُنذهِلةً فيما إذا كان يسوع رجلًا ذا لحمٍ ودمٍ نظيرنا، أو فِكرًا بِغير جسد، في العقل، أو فكرةً تزور خيال الإنسان. وكثيرًا ما يخطُر لي أنه لم يكن سوى حُلمٍ حلمه رِجال ونساء لا عديد لهم، وقد رآه جميعُهم في نومٍ أعمقَ من النَّوم، وفجرٍ أهدأ من كلِّ فجر. ويظهَر أننا إذ كُنَّا نقصُّ هذا الحُلم بعضنا لبعض شرعنا نتخيَّله حقيقةً وقعَت بالفعل، وإذ منحناه جَسدًا من خيالنا وصوتًا من حنينِنا جعلناه أخيرًا جَوهرًا حقيقيًّا لمادَّة وجودنا. ولكن بالحقيقة إنه لم يكن حُلمًا، فقد عرفناه ثلاثَ سنين ورأيْناه رأي العين في نور الظهيرة اللامع. قد لمَسنا يديه وتَبِعناه من مكانٍ إلى مكان. قد سمِعنا خُطَبَه ورأينا أعماله. وهل يخطُر لكم أنَّنا كُنَّا فِكرًا يَنشُد غيره من الأفكار أو حُلمًا هائمًا في منطقة الأحلام؟ إن الحوادث العظيمة تظهر دائمًا غريبةً عن حياتنا اليومية، وإن كانت طبيعته مغروسة في طبيعتنا. وهي وإن أقامت فجأةً في مَجيئها وفجأةً في مرورها بنا فإن جَوهرها الحقيقي يُرافِق السِّنين والأجيال. ويسوع الناصري هو نفسه الحادِثة العُظمى، فإنَّ ذلك الرَّجُل الذي نعرف أباه وأمه وإخوته كان نفسه أعجوبةً حدَثت في اليهودية. بلى، وكلُّ عجائبه إذا وُضِعت عند قدَميه لا تعلو إلى مُساواة عقِبيه. وجميع الأنهار في جميع السنين لا تقدِر أن تذهب بذِكراه من قلوبنا. فقد كان جبلًا مُحترِقًا في الليل، ومع ذلك كان حرارةً لَطيفةً وراء التِّلال، وكان عاصِفةً في الجو، ومع ذلك كان يتحرَّك بلُطفٍ في ضباب البحر. كان يسوع سيلًا جارِفًا مُنحدِرًا من الأعالي إلى السُّهول ليهدِم كلَّ شيءٍ في طريقه، وكان في الوقت نفسِه لطيفًا كابتسامة الأطفال. في كلِّ سنةٍ أنتظِر زيارة الرَّبيع لهذا الوادي، وفي كلِّ سنةٍ أنتظر الزَّنابِق وبَخور مريم، ولكن نفسي تكتئب في أعماقي كلَّ سنة؛ لأنني طالما تُقْتُ لأفرَح مع الربيع فلم أقدِر. ولكن عندما جاء يسوع إلى فُصولي كان بالحقيقة رَبيعًا لأحلامي، وقد تحقَّقَتْ فيه مواعيد جميع السِّنين المُقبِلة، فقد ملأ قلبي فرحًا، فنمَوتُ كالبنفسَج خَجولةً في نور مجيئه. واليوم لا تَستطيع تقلُّبات فُصول العالَم التي لم تَصِر لنا بعدُ أن تمحُوَ جماله من عالمنا هذا. إلا أن يسوع لم يكن حُلمًا ولا فكرةً تمخَّضَت بها أحلام الشعراء، بل كان رجُلًا مثلك ومثلي بالبَصَر والسَّمْع واللَّمْس، وفي جميع ما تبقَّى كان يختلِف كُلَّ الاختلاف عن جميعنا. فقد كان رَجُل أفراح، وعن طريق الفرح تعرَّف إلى كآبة جميع الناس، ومن أعالي سطوح كآبته رأى فرَحَ جميع الناس. إن الرؤى التي رآها لم نرَها نحن، والأصوات التي سمِعها لم نسمَعْها. وكان يتكلَّم مُخاطبًا جموعًا غير مَنظورة، بل كثيرًا ما تكلَّم بواسِطَتنا لأقوامٍ لم يُولَدوا بعد. وكان يسوع وحدَه في أكثر الأحيان، فقد كان بيننا ولكنَّه لم يكُن واحدًا مِنَّا. وكان على وجهٍ من السماء. ونحن لا نقدِر أن نرى أرض وِحدَته إلا في وِحدَتِنا. قد أحبَّنا حُبًّا مُمتلئًا بالعَطفِ والحنان. وكان قلبُه معصرة. وأنت وأنا كان في مَنالِنا أن نتقدَّم إليه بكئوسنا فنشرب حتى نرتوي. إن أمرًا واحدًا لم أكُن أفهَمُه في يسوع، وهو أنه كان كثير المُجون مع سامِعيه، فهو يُخبِرهم مُلحةً ويلعَب بالألفاظ، ثمَّ يضحك من أعماق قلبه حتى في الأوقات التي كانت ترتَسِم فيها الكآبة على عينيه وتَمتزِج بدقائق صوته. كل هذا لم أفهَمْه في ذلك الوقت، ولكنِّي أفهمُه الآن. كثيرًا ما أُفكِّر في الأرض فأتمثَّلُها امرأةً حُبلى ببِكْرها. وعندما وُلِدَ يسوع كان ابنَها البكر، وعندما مات كان أوَّلَ رَجُلٍ يموت. لأنه، ألم يظهر لك أن الأرض كانت صامِتةً في تلك الجُمعة المُظلِمة، والسَّماوات كانت في حربٍ شديدة ضِدَّ السَّماوات؟ بل، ألم تَشعُر، عندما اختفى وَجهُه عن أبصارنا، بأنَّنا لم نكن سوى تِذكارات هائمة في الضَّباب؟ يسوع ابن الإنسان
كلاوبا البتروني الشريعة والأنبياء عندما تكلَّم يسوع صمَت العالم كلُّه ليُصغي. إن كلِماتِه لم تكن لآذاننا، بل بالأحرى للعناصِر التي صنع الله منها هذه الأرض. فقد خاطَب البحر، الأم المُتَّسِعة الصدر التي وَلَدَتنا. وخاطب الجَبل، أخانا الأكبر الذي قُنَّته وعدٌ ورجاء. وخاطب الملائكة الذين وراء البَحر والجبل، الذين استودَعْناهم أحلامنا قبل أن يَجِفَّ الطِّين الذي فينا في أشعة الشمس. ولا يزال خِطابه هاجِعًا في صدرِنا كأُغنيَة الحُبِّ نِصف المَنسيَّة، وفي بعض المرَّات يخترِق طريقَه إلى ذاكِرتنا. كان خِطابه بسيطًا فرِحًا، وكانت رَنَّة صوته كالماء العَذب في أرضٍ ناشِفة. وقد رفع يدَه مرَّةً نحو السماء، فبدَت أصابِعُه كأغصان الجُميزة، وقال بصوتٍ عظيم: قد خاطبكم أنبياء القُدَماء، وآذانُكم مُمتلِئة من خُطَبِهم. أما أنا فأقول لكم: أفرِغوا آذانَكم مِمَّا سمِعتُم. وهذه الكلِمات التي قالها يسوع: أما أنا فأقول لكم … لم يتلفَّظ بها رَجُل من قومِنا، ولا من العالَم أجمَع، بل حمَلَها إلينا جَوقٌ من السَّارُوفيم في مُرورِه بِسَماء اليهودية. وكان يقتطِف أقوال الشريعة والأنبياء مَثْنى وثُلاث ورُباع ثمَّ يُضيف إليها في كلِّ مرةٍ قائلًا: أما أنا فأقول لكم. يا لها من كلماتٍ نارِيَّة! يا لها من أمواج بحرٍ لم تعرِفها شواطئ أفكارنا! أما أنا فأقول لكم: يا لها من كواكِب لامعةٍ تَنشُد ظلمَةَ النفس، ونُفوس مُستيقِظة تنتظِر جلال الفجر. «الفجر». إن من يودُّ أن يتكلَّمَ عن خِطاب يسوع يجِب أن يكون له خِطابه أو صدى خِطابه. أمَّا أنا فليس لي خِطابه ولا صداه، فأرجو من فضلك عُذرًا عن الشروع في قِصَّة لا أقدِر أن أُكمِلَها، ولكن النهاية ليستْ على شفَتي بعد، فإنها ما زالت أغنية حُبٍّ في الرِّيح. يسوع ابن الإنسان
نُعمان الغداريني موت إستفانوس قد تفرَّق تلاميذه؛ لأنه وَصَّي لهم بالألم قبل أن يَسبِق إلى الموت، وأعداؤهم يَصطادونهم صيد الغِزلان وثعالِب الحقول، ولا تزال جُعبةُ الصياد مُمتلئةً بالسِّهام. ولكن عندما يَقبِض العدوُّ عليهم ويَسوقُهم إلى الموت يفرَحون وتُشرِق وُجوههم كوَجهِ العَروس في وَليمةِ العُرس. فقد ترَك لهم أيضًا وَصِيَّة الفَرَح. كان لي صديق من أهل الشمال اسمه إستفانوس. وبما أنه نادى بيَسوع ابن الإنسان قادُوه إلى ساحةِ المَدينة ورَجَموه. وعِندما سقَط إستفانوس على الأرض بسَط ذِراعيه كأنَّه يَودُّ أن يموتَ كما مات مُعلِّمُه. وقد انبسَطت ذِراعاه كجَناحَين على أُهبة الطيران. وقبل أن يَضمحلَّ آخر بريقٍ في عَينَيه رأيتُ بأمِّ عَيني ابتسامةً قُدسيَّةً ترتَسِم على شَفَتيه. وما أشبَهَ تلك الابتسامة بالنَّسيم الذي يأتي قَبْل نِهاية الشِّتاء واعدًا ومُبَشِّرًا بقُدوم الربيع! كيف أستطيع أن أصِفها؟ يَلوُح لي أنَّ إستفانوس كان يَوَدُّ أن يقول: إذا كان لي أن أمضي إلى عالَمٍ آخر، وهناك قَبَض عليَّ قومٌ آخرون وساقوني إلى ساحةِ مَدينتهم ليرجُموني، فإنَّني حتى في ذلك العالَم سأعلِنُه للناس من أجل الحقِّ الذي كان فيه، ومن أجل الحقِّ نفسه الذي هو فيَّ الآن. وقد لاحظتُ بين المُتفرِّجين على رَجْم إستفانوس رَجُلًا واقِفًا أمامه ينظُر بملء الفَرَح إلى الحِجارة المُتساقِطة عليه. وكان اسم ذلك الرَّجُل شاوول الطرسوسي، وهو الذي سلَّم إستفانوس للكَهَنة والرُّومانيِّين والجموع ليرجُموه. كان شاوول أصلَعَ الرأس قصير القامة، وكان مُعوَجَّ الكَتِفين، ولا تَناسُب في قِوامه، ولم أكن أُحِبُّه. وقد أخبروني أنه يُبشِّر اليوم بيَسوع من على السطوح، ولكن هذا الكلام صعْبُ التصديق. ولكن القبر لا يستطيع أن يقِف في طريق سير يَسوع إلى مُعسكر أعدائه ليروِّض شَراسَتَهم ويأسِر أعظمهم. بَيْد أنَّني لا أحبُّ ذلك الرجل الطرسوسي، على رغم ما عرفتُه أنه بعد موت إستفانوس قد خمَدَت حدَّة شراسَته وغُلِبَ على أمره في طريقه إلى دمشق. ولكن رأسه أكبر من قلبه. فهو لا يقدِر أن يكون تلميذًا أمينًا ومع كلِّ هذا فقد أكون مُخطئًا في حُكمي؛ لأنَّني في الغالِب مُخطئ في أحكامي. يسوع ابن الإنسان
توما يصِف جَدَّه وشكوكه قال لي جَدِّي مرة، وكان مُتشرِّعًا: لنحتفِظ بالحقِّ عندما يظهر الحقُّ لنا. وعندما دَعاني يسوع لبَّيتُ دعوته؛ لأن أمرَه كان أقوى من إرادتي ولكنَّني لم أنسَ نصيحة جَدِّي، رحمِه الله. وعندما كان يُخاطِبنا فيتحرَّك غيري من السَّامِعين كأغصان الأشجار المُتمايِلة أمام هُبوب الرِّياح، كنتُ أُصغي إليه من غَير أن أتحرَّك، ولكنَّني على رَغم ذلك أحببتُه. قد تركْنا منذ ثلاثِ سنواتٍ جماعةً مُتفرِّقة تترنَّم باسمه، وتشهَدُ له في جميع الأمم. وقد دُعيتُ في ذلك الوقت بتوما المُشكِّك؛ لأن خَيال جدِّي كان ألزَمَ لي من ظِلِّي، وكنتُ ألتمِس إظهار الحقيقة لألمسها بيدي أبدًا. في ذلك العهد المُظلِم بالشكِّ كنتُ أضع يدي في جُرحي لأرى الدِّماء تنزِف منه قبل أن أُصدِّق ما بي من الألَم. ولكنَّني قد عرفتُ الآن أن الرجل الذي يُحبُّ بقلبِه ويحتفِظ بالشكوك في فِكره، هو عبدٌ محكوم عليه بالتجذِيف في سفينةٍ مُظلِمة، ينام أمام مَجاذِيفه ويحلُم بحريَّته حتى تُوقِظه سِياط سيِّده. فأنا كنتُ مثل هذا العبد، وقد حلمتُ بالحريَّة، ولكن نوم جَدِّي كان يُثقِل أجفاني، وقد احتاج جَسَدي إلى سِياط يومي. إنَّني حتى في حضرة الناصري كنتُ أُغمِض عيني لأرى يديَّ مَربوطتين إلى المِجذاف. الشكُّ ألَمٌ أنْسَتْه وحدَتُه أنَّه والإيمان تَوأمان. الشكُّ فرْخٌ من الطَّير ضالٌّ وشَقِي. ومع أن أُمَّه التي ولَدَتْه ستجِده وتضمُّه إلى صدرِها، فإنه يهرُب منها حذِرًا خائِفًا. ولن يَعرِف الشكُّ سبيلَه إلى الحقِّ حتى تُشفى جِراحه وتعود صِحَّتُه. فأنا شَككتُ في يسوع حتى أظهَر لي ذَاته، ووضعتُ يدي في جِراحه، حينئذٍ آمنتُ بالحقيقة، وبعد ذلك تحرَّرتُ من أمسي ومن جميع شكوك الأمس التي وَرِثتُها عن جُدودي. فقد دَفَن المَيِّتُ فيَّ مَوتاه، والحيُّ فيَّ سيَعيش للملِك الممسوح، ذلك الذي دُعِيَ ابن الإنسان. فقد أخبروني في الأمس أنه يجِب أن أسير مُبشِّرًا باسمه بين أبناء فارِس والهِند. إنَّني ماضٍ إلى عملي، ومن هذا اليوم إلى آخِر أيامه، في الفَجْر وفي المساء، سأرى رَبِّي قائمًا بِجلالٍ وسَأسمَعُه مُتكلِّمًا. يسوع ابن الإنسان
المُقدِّم المَنطقي يَسوع الخارجي تَطلبون إليَّ أن أتكلَّم عن يسوع الناصري، ولديَّ عنه حديثٌ مُستفيض، ولكن لم يأت الوقت بعد، ولكن مَهما قلتُ عنه الآن فهوَ الحقُّ بعينه؛ لأن كلَّ قولٍ لا قِيمةَ له ما لم يُوضِّح الحقيقة. إنه رَجُل مُختلٌّ يثُور على النظام، ومُتسوِّل يقاوِم المُقتنَيات، وسِكِّير لا يفرَح إلَّا مع المُحتالين والمَرذولين. لم يكن ابنَ الولاية الفَخور، ولا ابنَ الإمبراطورية المُتمتِّع بحِمايتِها كسائر المُواطنين النافِعين؛ ولذلك كان يحتقِر الولاية والإمبراطورية. كان يَعيش حُرًّا لا يعرِف الواجِب كطُيور الهواء؛ ولذلك أنزَله الصيَّادون إلى الأرض بسِهامِهم. ما مِن رجلٍ يَدُكُّ قِباب الأمس وينجو من حِجارتِها المُتساقِطة. وما مِن رجلٍ يفتَح أبواب طُوفان أسلافِه من غير أن يَختنِق. هي الشريعة. وبما أن ذلك الناصري كسَر الشريعة صار هو وأتباعُه البُلَداء إلى لا شيء. وقد عاش في العالَم كثيرون مِثله من الرِّجال الذين أرادوا أن يُغيِّروا مَجرى حياتنا. ولكنَّهم هم أنفسهم تغيَّروا، وكانوا خاسِرين. توجَد دالية لا عِنَبَ فيها تنمو عند أسوار المدينة، وهي تمتدُّ وتُعرِّش على حِجارة السور، فإذا قالت هذه الدَّالية في قلبها: إنِّي سأُخرِّب هذه الجُدران بقوَّتي وثِقَل أغصاني، فماذا تقول لها بقيَّة النباتات؟ إنها ولا شكَّ تضحك من جُنونها. لأجل هذا تراني يا سيِّدي مُضطرًّا إلى الضحك من هذا الرَّجُل ومن تلاميذه المَخدوعين به. يسوع ابن الإنسان
إحدى المَرْيَمات كآبة وابتِسامة كان رأسُه مُرتفعًا أبدًا، ونور الربِّ كان في عينيه. كان في الغالِب كئيبًا، ولكن كآبته كانت بلْسمًا لجِراح الحزانَى والمُستوحِشين. وعندما كان يبتسِم كانت ابتسامَتُه كمَجاعةِ المُشتاقين إلى غير المعروف، بل كانت كغُبار الكواكب المُتساقِط على أجفان الأولاد، وكقِطعة الخُبز في الحلْق. كان كئيبًا، ولكنَّ كآبته كانت من النَّوع الذي ينهَض إلى الشَّفَتَين ويتحوَّل إلى ابتِسامة. فقد كانت كقِناعٍ ذَهَبيٍّ في الحَرج عند دُنوِّ الخريف، وفي بعض المرَّات كانت تبدو لنا كأشعةِ القمَر على شواطئ البُحيرة. فكان يبتسِم كأن شفَتَيه تَودَّان الغِناء في وَليمة عُرس. بيد أنه كان كئيبًا بكآبة ذي الجَناحَين الذي لا يُريد أن يُحلِّق فوق رَفِيقه. يسوع ابن الإنسان
رومانوس الشاعر اليوناني يسوع الشاعر كان يَسوع شاعِرًا، وكان يرى لعُيوننا ويَسمع لآذانِنا، وكلِماتنا الصامِتة كانت على شفَتَيه، وأصابِعُه كانت تُلامِس ما لم نقدِر نحن أن نُحِسَّ به. وكانت تطير من قلبه عصافير مُغرِّدة لا عديد لها. بعضُها إلى الشمال وبعضُها إلى الجنوب، وكانت الأزهار اللَّطيفة في جوانب التِّلال تُسدِّد خطواته نحوَ السماوات. كثيرًا ما رأيتُه ينحنِي ليُلامِس أوراق الأعشاب، وفي قلبي كنتُ أسمعُه يخاطِبها قائلًا: أيتها المَخلوقات الصغيرة الخضراء، أنت ستكونين معي في مَلَكوتي كما سيكون معي سَنديان بيسان وأَرُزُّ لبنان. وكان يُحبُّ كلَّ ما هو جميل في الوجود، الوُجوه الخَجولة في الأولاد، والمُرُّ واللبان من الجنوب. قد أحبَّ رُمَّانةً أو كأسًا من الخَمْر تُقرَّب إليه بمودَّة، ولم يُهمُّه أجاءت من غريبٍ من الفندق أو من مُضيفٍ غني. وكان يُحبُّ أزهار اللَّوز، وقد رأيتُه مرةً يجمعها بيديه ويغطِّي وَجهه بأوراقِها كأنه يودُّ أن يُعانِق بمحبَّته كلَّ أشجار العالَم. قد عرَف البَحر والسماوات، وتكلَّم عن الدُّرَر التي لم تتَّخذ نُورَها من هذا النور، والكواكب القائمة فوقَ ليلِنا. وعرَف الجِبال كما تعرِفُها النُّسور، والأوْدِية كما تعرِفُها السَّواقي والجداول، وكان في صَمتِه صحراء، وفي كلامِه جنَّةً غنَّاء. نعم كان يسوع شاعرًا قد أقام قلبُه في مِظلَّةٍ تسمو على أعلى أعالينا. ومع أن ترانيمه أنشدَت لآذانِنا فقد أنشدت أيضًا لآذانٍ أخرى، وسمِعَها الناس في بلادٍ أخرى حيث الحياة كلُّها شباب دائِم والزمان كلُّه فجر مُقيم. قد حَسِبتُ نفسي شاعِرًا فيما مضى، ولكنَّني عندما وقفتُ أمامه في بيت عِنيا عرفتُ للحال ما مُقام الضارِب على آلةٍ ذاتِ وَتَرٍ واحدٍ أمام الذي يأمُر جميع الآلات وجميع الأوتار فتُطيعه، فقد اجتمع في صوتِه ضحك الرعود، ودُموع الأمطار، ورقْص الرِّياح والأشجار. ومُذ عرفتُ هذا صارت قِيثارتي ذات وَترٍ واحد، ولم يعُد لصوتي أن يَحُوك لا تِذكارات الأمس ولا آمال الغد؛ ولذلك رَميتُ بِقِيثارتي جانبًا، وعوَّلتُ على الاعتِصام بالصَّمت. ولكنَّني عند كلِّ شفَقٍ أُصغي بجِماع نفسي، لأسمَع الشاعِر الذي هو أمير جميع الشُّعراء. يسوع ابن الإنسان
لاوي التِّلميذ في المُجرِّبِين والمُرائين في أحد الأمساء مرَّ يَسوع ببيتي، فاستيقظَتْ نفسي في أعماقي. فخاطَبَني قائلًا: هَلُمَّ يا لاوي واتبعْني. فتَبِعْتُه في ذلك اليوم. وفي مساء اليوم التالي طلبتُ إليه أن يَدخُلَ بيتي ويُشرِّفني بضِيافته، فعَبَر فوق عتَبتي هو وأصدقاؤه وبارَكَني مع امرأتي وأولادي. وكان في بيتي ضُيوف غيره من الكَتَبة والعُلَماء ولكنَّهم كانوا ضِدَّه في قلوبهم. وعندما جَلسْنا إلى المائدة سأله أحد الكَتَبة قائلًا: أحقيقة أنكَ أنت وتلامِيذك تكسِرون الشَّريعة بإيقادِكم نارًا يومَ السبت؟ فأجابه يسوع قائلًا: نحن بالحقيقة نُوقِد نارًا يوم السبت، فإنَّنا نوَدُّ أن نُنِير يوم السبت، ونحرقَ بمشعلنا كلَّ القشِّ اليابِس المُتجمِّع في جميع الأيام. فقال له كاتب آخر: وقد أخبرونا أنك تَشرَب خمرًا مع غير الأنقِياء في الفُندُق. فأجاب يَسوع وقال: نعَم وهذه أيضًا نتنعَّم بها. أفَهل جِئنا إلى هنا إلَّا لنُشاطِر غير المُتوَّجين فيكم رَغِيفَهم وكأسَهم؟ قليلون، بل أقلُّ من القليلين هم الذين لا رِيشَ لهم ولكنَّهم يَجرءون على مُقاوَمة الرِّيح، وكثيرون هم المُجنَّحون والمريَّشون الذين ما برحوا في أعشاشهم. ونحن نُطعِم الجميع بمِنقارنا، الكَسالى والمُجتهِدين بالسَّوِيَّة. فقال كاتِب ثالث: ألم أسمَع أنك تُحامي عن زَواني أورشليم؟ حينئذٍ رأيتُ بعينيَّ كأنَّ أعالي لِبنان الصخريَّة قد ارتسَمَتْ على وجه يسوع، فقال: نعم، كلُّ ما سِمِعتموه حقيقي. ففي يوم الحِساب ستقِف هؤلاء النِّساء أمام عرش أبي وسَيتنَقَّيْن بدُموعهن، أما أنتُم فسيحكُم عليكم بقُيود دَينونَتِكم. إن بابل لم تُخرِّبها الزَّواني، ولكن بابل تحوَّلت إلى رمادٍ لكيلا تنظُر عيون المُرائين فيها نورَ النهار فيما بعد. وكان كَتَبة آخرون يودُّون أن يسألوه أيضًا، غير أنَّني أثَّرتُ عليهم بالصمت، لأنني عرفتُ أنه سيخذُلُهم. وبِصِفتهم ضيوفًا في بيتي لم أشأ أن تلْحَقَهم إهانة. وعند انتِصاف الليل ترَك الكَتَبة مَنزلي وقد تخلَّعَت نفوسهم. حينئذٍ أغمضتُ عينيَّ فرأيت، كما لو كنتُ في رؤيا، سبعَ نساءٍ بِثِيابٍ بيضاء واقِفاتٍ حول يسوع. وكنَّ واقفاتٍ بخشوع وقد صلَّبن أذرُعهن على صُدورهنَّ وحَنَيْنَ رءوسهن. وإذ تأمَّلتُ مليًّا بضباب حُلمي نظرتُ وجهَ واحدةٍ منهنَّ فأشرَق لامعًا في ظُلمة خَيالي. وكان ذلك الوَجه وجْهَ الزانية التي عاشت في أورشليم. ثمَّ فتحتُ عينيَّ ونظرتُ إلى يسوع، فإذا هو يبتسِم وينظُر إليَّ وإلى جميع الذين لم يتركوا المائدة. فأغمضتُ عينيَّ ثانيةً، وهنالك رأيتُ في النُّور سبعةَ رجالٍ بثيابٍ بيضاء واقِفين حول المُعلِّم. وإذا تأمَّلتُهم عرفتُ وَجهًا من وُجوهِهم. وكان ذلك الوَجه وجهَ اللِّصِّ الذي صُلِب فيما بعد عن يَمينه وبعد ذلك ترَك يَسوع وأصحابه منزِلي وساروا في طريقِهم. يسوع ابن الإنسان
مريم المَجدليَّة اجتماعها بِيسوع لأول مرَّة رأيتُه لأول مرةٍ في شهر حُزَيران، كان يمشي بين الزُّروع عندما مررتُ مع جواريَّ، وكان وَحيدًا. وكان انتِظام وقْع خطواته في الأرض مُختلفًا عن جميع الرجال، وحركة جِسمه لم أرَ مثلها قطُّ في حياتي. إن الرِّجال لا يمشون على الأرض كما مشى هو، وإلى هذه الساعة لا أدري إذا كان يَسير بسرعةٍ أو ببُطء. وكانت جَواريَّ يُشِرْن إليه بأصابِعهنَّ ويتهامَسْن فيما بينهُنَّ والحَياء يُخيِّم فوقَهن. أما أنا فوقفتُ لحظةً ورفعتُ يدي لأُحيِّيه، ولكنَّه لم يلتفِت، ولم ينظُر إليَّ فأبغَضتُه جدًّا، وشعرتُ بأنَّ الدَّم يجمُد في عروقي من شدَّة الغَيظ، وفارقتْني حرارةُ جسَدي حتى صرتُ بارِدةً كأنما أنا في عاصِفةٍ من الثلج هَوجاء، وكنتُ أرتجِف بكُلِّيَّتي. وفي تِلك الليلة رأيتُه في منامي، وقد أخبرُوني فيما بعد أنَّني كنتُ أصرُخ صُراخًا شديدًا في نَومي، ولم أعرِف طعْم الراحة في فِراشي في تلك الليلة … ثُمَّ رأيتُه ثانيةً في شهر آب، وكان ذلك من خِلال نافِذتي. فكان جالسًا في ظِلِّ سَروةٍ أمام بُستاني، وكان هادئًا كأنه تِمثال منحوت من الحِجارة، كالأنصاب التي رأيتُها قبلًا في إنطاكية وغيرها من مُدن الشمال. في تلك الدَّقيقة جاءت خادِمتي المِصرية وقالت لي: إنَّ ذلك الرَّجُل هو هنا ثانية، وهو جالِس هنالك أمام بُستانك. فحدَّقتُ إليه طويلًا، فارتَعَشَت نفسي في أعماقي لأنه كان جميلًا. كان جسمه فريدًا، وقد تناسبَتْ أعضاؤه، حتى خُيِّلَ إليَّ أن كُلًّا منها مَسحور بحبِّ رَفيقه. وفي الحال لبِستُ أفخر أثوابي الدِّمشقية، وتركتُ بيتي وسِرتُ إليه. هل دَفعتْني وِحدَتي أم طِيب شَذاه حمَلني إليه؟ وهل مَجاعة عيْني الراغبة في الجمال، أم جماله الذي كان يُفتِّش عن النور في عَيني؟ إنَّني حتى الساعة لا أعلم. مشيتُ إليه بأثوابي المُعطرة وحذائي الذهبي، الذي أعطانيه القائد الروماني. نعم ذلك الحِذاء بِعينه! وعندما وصلتُ إليه قلتُ له: أنعمتَ صباحًا. فقال: نعِمتِ صباحًا يا ميريام. ثمَّ نظر إليَّ، فرأتْ فيَّ عيناه السَّوداوان ما لم يرَه رَجلٌ قبلَه، فشعرتُ فجأة كأنَّني عارِية وخَجِلتُ في ذاتي. بيد أنه لم يقُل سوى: نعمتِ صباحًا. حينئذٍ قلتُ له: أفلا تُريد أن تدخُل إلى بيتي؟ فقال: أمَا أنا الآن في بيتِك؟ إنَّني لم أعلَم ما عناه آنئذٍ، ولكنَّني أعلَم الآن. فقلت له: أفلا تُريد أن تشرَب الخَمر وتكسِر الخُبز معي؟ «مريم المَجدَليَّة». فأجاب: بلى يا ميريام، ولكن ليس الآن. ليس الآن. ليس الآن، هكذا قال لي، وكان صوت البَحر في هاتين الكلِمَتين، وصوت الرِّيح والأشجار، وعندما قالَهما لي تكلَّمَتِ الحياة مع الموت. فاذْكُر يا صاح، ولا تنسَ أنَّني كنتُ ميِّتة؛ فقد كنتُ امرأةً طلَّقَت نفسها، وكنتُ أعيش بعيدةً عن هذه الذَّات التي تراها الآن؛ فقد اختصَصْتُ بجميع الرِّجال، ولم أختَصَّ بأحد، فكانوا يَدعُونَني عاهِرة، وامرأة فيها سبعة شياطين. كُنتُ ملعونةً من الجميع ومحسودةً من الجميع. ولكن عندما نظر فجْرُ عينيه إلى عينيَّ غابَت جميع كواكِب لَيلِي وصِرتُ ميريام، ميريام فقط، امرأة ضاعت عن الأرض التي عرفَتْها ووجدَتْ نفسها في أماكن جديدة. ثمَّ قلتُ له ثانية: هَلُمَّ إلى بيتي وشارِكني بِخمرَتي وخُبزي. فقال: لماذا تُلحِّين على أن أكون ضيفك؟ فقلتُ: أتوسَّل إليك أن تدخل إلى بيتي. وكان كلُّ ما بي من الأرض وكلُّ ما بي من السماء يُناجيه ويَدعوه ويَطلُبه. حينئذٍ نظَر إليَّ، فأشرَقَت ظهيرة عينيه على رُوحي، وقال: إن لك كثيرين من المُحبِّين، بيْدَ أنَّني أنا وحدي أُحبُّك، فإن بقيَّة الرِّجال يُحبُّون أنفسهم في قُربك، أما أنا فأحِبُّك في نفسك. إن بَقيَّة الرجال ينظرون فيك إلى جَمالٍ يَذوي قبل انتهاء سِنيهم، أمَّا الجمال الذي أراه أنا فيك فإنَّه لن يَزول، وفي خَريف أيامك لن يخاف ذلك الجمال أن يَنظُر إلى ذاته في مرآة، ولن يقدِر أحدٌ أن يَعيبه. أنا وحدي أحبُّ ما لا يُرى فيك. ثمَّ قال بصوتٍ واطئ: امضي في طريقِك الآن، وإذا كانت هذه السَّروة لك ولا تُريدين أن أجلِس في ظلِّها، فأنا أيضًا أسير في طريقي. فتوسَّلتُ إليه بدموعٍ قائلةً: يا مُعلِّم، ادخُل إلى بيتي. إن لديَّ بخورًا أحرِقُه أمامك، وطستًا من الفِضَّة لغسل قَدَميك. أنت غريب ولكنَّك لستَ بالغريب؛ لذلك أتضرَّع إليك أن تدخُلَ إلى بيتي. في تلك اللحظة وَقفَ ونظَر إليَّ كما تنظُر الفصول إلى الحَقْل وتبسَّم، وقال ثانية: إن جميع الرِّجال يُحبُّونك لأجل ذواتهم، أما أنا فأحبُّك لأجل ذاتك. قال هذا وسار في طريقه. ••• ولكن ما من رَجلٍ مشى مِشيَتَه قط، هل وُلِدَت في بستاني نَسمة عُلويَّة ثمَّ سارت إلى الشرق؟ أم هي عاصِفة جاءت تُزعزِع كلَّ شيء لتردَّه إلى أُسُسه الأصلية؟ إنَّني لم أعلم. ولكن في ذلك اليوم ذَبح غروب عينيه الوَحْش الذي كان فيَّ، فصرتُ امرأة، صِرتُ ميريام؛ مريم المَجدليَّة. يسوع ابن الإنسان
أرمَلَة الجَليل يسوع القاسي كان ابني بكرًا لي، وكان الولَدَ الوحيد الذي ولدْتُه. وكان يشتغِل في حقلِنا، وكان راضيًا بعملِه حتى سمِع الرجل المدعو يسوع يُخاطِب الجموع، حينئذٍ تغيَّر ابني فجأة، كأن رُوحًا غريبةً غير صحيحة عانَقَت رُوحه. فترَك الحقل والبُستان، وتركَني أنا أيضًا، وصار خامِلًا يعيش بين رِعاع الطريق. إن ذلك الرَّجُل المدعو يسوع الناصري شرِّير؛ لأن: أيَّ رَجُلٍ صالِحٍ يفصِل ابنًا عن والِدَته؟ وكان آخرَ ما قاله لي ابني هكذا: أنا ماضٍ مع أحد تلاميذه إلى البلاد الشَّمالية، لأنَّني قد جدَّدتُ بناء حياتي على صخرة الناصري، أنت قد وَلدتِني وأنا شاكِر لك صنيعك، ولكنَّ الواجِب الأسمى يدعوني إلى الذَّهاب، أما أنا تارِك لك أرضنا الغنيَّة وكلَّ ما لنا من الفِضَّة والذَّهب؟ إنَّني لن أحمِل معي شيئًا إلا هذا الثَّوب وهذه العصا. هكذا خاطَبَني ابني وفارَقَني. واليوم قد قبَض الرُّومانيُّون والكَهَنة على يسوع وصلَبوه، وحسنًا فعلوا. فإن الرَّجُل الذي يُفرِّق الابن عن أُمِّه لا يُمكِن أن يكون من الله. والرَّجُل الذي يُرسِل أولادنا إلى مُدُن الأُمَم لا يقدِر أن يكون لنا صديقًا. إنَّني أعرِف أن ابني لن يرجِع إليَّ، فقد رأيتُ ذلك في عَينيه، ولأجل هذا أبغَض يسوع الناصري الذي سبَّبَ وِحدَتي في هذا الحقل غير المَفلُوح وهذا البُستان الذَّابِل. وقد أبغضتُ كُلَّ من يَمدَحُه. قيلَ لي منذ أيام إن يسوع قال مرة: إن أبي وأُمِّي وإخوتي هم الذين يَسمَعون كلامي ويَتْبَعونِني. ولكن لماذا يجِب على الأبناء أن يتركوا أُمَّهاتِهم ويَتْبَعوا خُطواتِه؟ ولماذا يجِب أن يَنسى حليب ثَدْيي في سبيل يَنبوعٍ لم يُذَق بعد؟ وحرارة ذِراعي يُعرِض عنها من أجل بلاد الشَّمال البارِدة والمُمتلِئة بالعَداء؟ إلا أنني أبغَض ذلك الناصري، وسأبغَضُه إلى آخر أيامي؛ لأنه سرَق بِكري وحرَمَني وَحيدي. يسوع ابن الإنسان
يهوذا نسيب يسوع مَوت يُوحنَّا المِعمدان حدث في ليلةٍ من ليالي آب أنَّنا كُنَّا مع المُعلِّم في مرجٍ قريبٍ من البُحيرة، وقد أطلق القُدَماء على هذا المَرج اسم مرْج الجَماجِم. وكان يَسوع مُضْطَجِعًا على العُشب يتأمَّل النُّجوم. وحدَث فجأةً أنَّ رَجُلَين رَكضا إلينا بأنفاسٍ مُتقطِّعة، وكانت أمائر الألَم مُرتَسِمةً على مَلامِحِهما، فركَعا على قدمَي يسوع. فوقَف يسوع، وقال لهما: من أين جِئتما؟ فأجابه أحدُهما: من ماخاروس. فنظَر إليه يسوع مُضْطَرِبًا وقال: وما حلَّ بيُوحنَّا؟ فأجابه الرَّجُل: قد قَتلوه اليوم، وقد قَطعوا رأسَه في سِجنه، فرفَع يَسوع رأسَه، ثمَّ مشى بعيدًا عنَّا قليلًا، وبعد هُنيهةٍ رَجع ووقَف في وَسطنا. فقال لنا: كان في مَنال المَلِك أن يَقتُل النبيَّ قبل اليوم، بالحقيقة إن المَلِك قد جرَّب كُلَّ ملذَّات رَعاياه، ولكنَّ ملوك القُدَماء لم يكونوا بَطيئين هكذا بإعطاء رأسِ نبيٍّ لصيادي الرءوس. إنَّني لستُ حزينًا من أجل يُوحنَّا، بل أنا حزينٌ من أجل هيرودوس الذي سمَح بسقوط السَّيف. مِسكين هو الملك! فهو كالحَيَوان الذي يَقبِضون عليه ويَقودُونه بحلقةٍ وحَبْل. ما أشقى رؤساء الرَّبْع هؤلاء! فإنهم إذ يَتيهون في ظُلمَتِهم يَعثُرون ويَسقُطون. وهل ترجُون من البحر القَذِر إلَّا أسماكًا مَيِّتة؟ أنا لا أبغض الملوك، فليحكُموا الناس، ولكن على شرط أن يكونوا أحكَم مِن الناس. ثمَّ نظَر المُعلِّم إلى وَجهَي الرَّسُولَين الكَئيبَين وإلى وُجوهنا وخاطَبَنا ثانية، وقال: قد وُلِدَ يُوحنَّا مَجروحًا. وكان دَمُ جُرحِه يَفيضُ من كلامه، فقد كان حُريَّة لم تتحرَّر بعدُ من ذاتِها، وصبرًا لا يعرِف إلَّا المُستقيمين والأبرار. بالحقيقة إنه كان صوتًا صارخًا في أرض الذين لهم آذان ولا يسمعون، وقد أحببتُه في كآبته وَوِحدته. وأحببتُ كبرياءه التي قدَّمَت رأسها للسيف قبل أن تُسلِمَه للتراب. الحقَّ أقول إن يوحنا بن زكريا هو آخر أبناء جنسه، وقد قُتل كأسلافه بين عَتَبة الهيكل والمَذبح. ثمَّ مشى ثانيةً بعيدًا عنَّا قليلًا. وبعد دقيقة من الزمان رجع وقال: هكذا كان وهكذا سيكون. إن الذين يحكُمون ساعة سيقتُلون الذين يحكُمون أعوامًا، وهكذا سيكون أبدًا أنهم يعقِدون مجالِسهم ويحكُمون على الرجل الذي لم يُولَد بعد، ويقضون بموته قبل أن يرتكِب الجريمة. إن ابن زكريا سيعيش معي في ملكوتي وسيكون نهاره طويلًا. ثمَّ التفتَ إلى تلميذي يوحنا وقال: لكل عمل غده، وأنا نفسي قد أكون غدًا لهذا العمل. فاذْهبا إلى أصدقاء صديقي وقولا لهم إنَّني سأكون معهم. فانصرف الرجلان في طريقهما، وكانا أقلَّ كآبةً من الوقت الذي وَصَلا فيه. أما يسوع فاضطجَع على العُشب ثانيةً وبسط ذِراعيه وعاد إلى التأمُّل بالنجوم. وكانت ساعةً مُتأخِّرة من الليل، وكنتُ مُتَّكِئًا بجانبه، أتُوق إلى الرَّاحة من كلِّ قلبي، ولكنَّ يدًا خفيةً كانت تقرَع على بوَّابة نومي؛ ولذلك بقيتُ مُستيقظًا حتى دعاني يسوع والفجر إلى الطريق. يسوع ابن الإنسان
رجُلٌ من الصحراء في الصَّيارِفة كنتُ غريبًا في أورشليم، وقد أتيتُ إلى المدينة المقدَّسة لأنظُر الهيكل العظيم، وأُقدِّم ذَبيحتي على المَذبح؛ لأن زَوجتي وَلَدتْ صَبيَّيْن توأمين لقبيلتي. وبعد أن قدَّمتُ ذبيحتي وقفتُ في رُواق الهيكل أنظر إلى الصَّيارِفة وبائعي الحمام، وأُصغي إلى الضَّجيج العظيم المُتصاعِد من الدار. وفيما كنتُ واقفًا دخل رجل فجأةً ووقف في وسط الصَّيارفة وبائعي الحمام، وكان رجلًا وَقورًا عظيمًا، وقد دخل بسرعةٍ عجيبة. وكان يحمِل بيده حَبْلًا مصنوعًا من جلود التُّيوس، فشرع يُقلِّب موائد الصيارفة ويضرِب بائعي الطيور بحبلِه. وقد سمِعته يقول بصوتٍ عظيم: أطلِقوا هذه الطُّيور في الجوِّ الذي هو عُشُّها. وكان الرجال والنساء يهربون من أمام وجهه، وهو يتحرَّك بينهم كما تتحرَّك زَوبعة الرياح على تِلالٍ من الرمل. كل هذا حدَث بلحظةٍ واحدة، ففرَغَتْ دار الهيكل من الصيارفة، ولكن الرجل وقف هناك وحده، وكان أتباعه يقِفون بعيدًا عنه. ثمَّ أدرتُ وجهي فرأيتُ رجلًا آخر في رُواق الهيكل، فسرتُ إليه وقلتُ له: هل لسيِّدي أن يُخبِرني من هو هذا الرجل الواقِف وحده كأنه هيكل ثانٍ؟ فأجابني وقال: هذا هو يسوع الناصري، النبيُّ الذي ظهر أخيرًا في الجليل، ولكن جميع الناس هنا في أورشليم يبغَضونه. فقلتُ: إن في قلبي من القوَّة ما يحمِلني لأن أكون مع سَوطه، وفيه من الاستسلام ما يحمِلني للسُّجود عند قدَمَيه. أما يسوع فإنه رجَع إلى رُفقائه الذين كانوا يَنتظرونه، ولكن قبل أن يصِل إليهم رجعَتْ ثلاث حماماتٍ من حمام الهَيكل فحطَّت واحدةٌ على كتِفه اليسرى والاثنتان عند قدميه، فوضَع يده بلُطفٍ عجيبٍ على كلٍّ منها، ثمَّ تابع سيره، وكان في كلِّ خطوةٍ من خطواته فراسِخ عديدة. بِربِّكم أخبروني بأيَّةِ قوَّةٍ ضرب المئات من الرجال والنساء وفرَّقَهم من غير أقلِّ مقاومة؟ فقد قيل لي إنهم كلهم أبغضوه، ولكن لم يجرؤ أحد أن يقِف أمامه في ذلك اليوم، فهل قلع أنياب البُغض في طريقه إلى دار الهيكل؟ يسوع ابن الإنسان
بُطرُس في مُستقبَل التلاميذ ذهب بنا يسوع مرَّة عند غروب الشمس إلى قرية بيت صيدا، وكان التَّعَب آخذًا مأخذَه من جماعتنا، وكان غُبار الطريق مُحيقًا بنا. فأتينا إلى منزلٍ كبير في وسط بُستانٍ جميل، وكان رب البيت واقِفًا أمام البوابة. فقال له يسوع: إن هؤلاء الرجال تَعِبون، وقد تقرَّحَت أقدامُهم من المشي، فدَعْهم ينامون في بيتك، فإن الليلة بارِدَة وهم في حاجة إلى الدِّفء والراحة. فأجاب الغَنيُّ وقال: إنهم لن يناموا في بيتي. فقال له يسوع: فاسمَح لهم إذًا أن يناموا في بُستانك. فأجاب الرجل: كلًّا، ولا أسمَح لهم بالنَّوم في بُستاني. ثمَّ التفتَ يسوع إلينا وقال: إن هذا مِثالٌ مما ستَصيرون إليه في الغَد، وهذا الحاضر يُشبِه مُستقبلكم. إن جميع الأبواب ستُقْفل في وُجوهكم، حتى إن البساتين المُتَّكئة تحت النجوم ستقفل أبوابها دونكم. فإذا صبَرت أقدامكم على عَناء الطريق وَثَبَتُّم، تَتْبَعوني، فإنكم قد تَجِدون طستًا وفراشًا، وربما خُبزًا وخمرًا أيضًا. ولكن إذا حدَث ولم تَجِدوا شيئًا من هذا فلا تَنسَوا في ذلك الوقت أنكم قد عبرتُم صحراء واحدة من صحاري مُعلِّمِكم. هَلُمَّ بنا نمضي من هنا. أما الرجل الغنيُّ فإنه كان مُضْطَرِبًا، وقد تغيَّر لون وجهه، وكان ينطِق بكلماتٍ لم أسمعها، فتحوَّل عنَّا وارتدَّ إلى بُستانه. وهكذا تبِعْنا يسوع على الطريق. يسوع ابن الإنسان
ملاخي الفلكي البابلي في عجائب يسوع تَسألونني عن عجائب يسوع! في كلِّ ألف ألف سنةٍ تجتمِع الشمس والقمر وهذه الأرض وجميع شقيقاتها السيَّارات في خطٍّ مُستقيم، ويتباحَثْنَ معًا هُنيهةً واحدة. ثمَّ يتفرَّقْن ببطءٍ وينتظِرن مرور ألف ألف سنةٍ أخرى. لا عجائب في الوجود وراء الفصول، ولكن أنت وأنا لا نَعرِف كُلَّ الفصول، وما قولك في فصلٍ كامل يتجسَّد بشكلِ رجلٍ واحد؟ في يسوع اجتمعت كلُّ عناصر أجسادنا وأحلامنا طِبقًا للشريعة. وكلُّ ما كان من قبله سابقًا لأوانه قد وجد فيه أوانه. يقولون إنه كان يُعطي العِميان بَصرًا والمُقعَدين مَقدِرةً على المشي، وإنه كان يُخرِج الشياطين من المجانين. قد لا يكون العَمى إلا فِكرةً مُظلِمة يُمكِن التغلُّب عليها بفِكرةٍ مُلتِهبة، وقد لا يكون العُضو المشلول إلا خُمولًا يُمكِن إيقاظُه بالقُوَّة المُتحرِّكة. وقد يكون أنَّ الشياطين، وهي العناصر القَلِقة في حياتنا، تُخرِجهم مِنَّا ملائكة السلامة والطمأنينة. ويقولون إنه أعاد الموتى إلى الحياة، فإذا كنتَ تقدِر أن تُخبرني ما هو الموت فأنا حينئذٍ أخبِرُك ما هي الحياة. نظرتُ مرةً في أحد الحقول بلُّوطةً هادِئة لا قِيمة لها ولا شأن، وعُدتُ في الربيع فرأيتُ تلك البلُّوطة تمدُّ جذورها في الأرض وتنهَض لتَصير سِنديانةً جبَّارة أمام وجه الشمس. أنت ولا شكَّ تحسَب هذا أعجوبة، ولكن هذه الأُعجوبة تُصنَع ألف ألف مرَّةٍ في غفلةِ كلِّ خريف وشوق كلِّ ربيع. فماذا يمنَع حصولها في قلب الإنسان؟ أفلا تقدِر الفصول أن تَجتمِعَ في يدِ إنسانٍ ممسوح أو على شفَتَيه؟ فإذا كان إلهُنا قد منَح الأرض أن تحتضِن البُذور في حين أن البُذور ميِّتة بحسْب الظاهر، فلماذا لا يمنَح قلب الإنسان أن يَنفُخَ نسمة الحياة في قلبٍ آخر، وإن كان هذا القلب ميِّتًا بحسْب الظاهر؟ قد تكلَّمتُ عن هذه العجائب التي لا أُعيرها سوى القليل من الانتِباه تِجاه الأعجوبة الكبرى، التي هي الرجُل نفسه، العابر السبيل، الرجل الذي حوَّل نُفاية الصدأ فيَّ إلى ذهبٍ وهَّاج، وعلَّمني كيف أحبُّ الذين يَبغضونَني. وبعملِه هذا حمل إليَّ التَّعزِية الكامِلة وكلَّلَ نَومي بالأحلام اللذيذة. هذه هي الأعجوبة في حياتي. كانت نفسي عمياء، وكانت نفسي عَوجاء، وكان في أعماقي كثيرٌ من الأرواح القَلِقَة، وكنتُ ميِّتًا. أما اليوم فأنا أرى بوضوح، وأمشي مُستقيمًا، وقد عاوَدَتْني سلامَتي وأنا أعيش لأشهَدَ وأُعلِن عجائب كِياني في كلِّ ساعةٍ من النهار. وأنا لستُ من أتباعه، بل أنا فلَكيٌّ شَيْخ، أزور حُقول الفضاء مرَّةً في كلِّ فصل، وأحترِم الشريعة وأصدِّق بعجائبها. أنا الآن في شفَقِ زَماني، ولكنَّني كُلَّما فتَّشتُ عن فَجْره إنما أُفتِّش بالحقيقة عن شباب يسوع. إن العُمُر يَنشُد الشباب أبدًا، ولكن بي تُفتِّش المَعرِفة عن الرؤيا. يسوع ابن الإنسان
فيلَسوف في العَجَب والجَمال عندما كان معنا كان ينظُر إلينا وإلى أعمالنا بعين العَجَب؛ لأن عينيه لم تتقنَّعا ببرقُع السِّنين، وكلُّ ما رآه كان واضحًا في نُور شبابه. ومع أنه سبَر غَوْر الجمال فقد كان يَنذهِل أبدًا أمام سلامِه وجلالِه. وقد وقف أمام الأرض كما وقَفَ الإنسان الأول أمام اليوم الأول. أما نحن الذين تخدَّرت حواسُّنا فإننا ننظُر في نور النهار الكامل، ولكنَّنا لا نرى شيئًا، فنحن نُحجِّم آذانَنا ولكنَّنا لا نَسمع، ونمُدُّ أيدينا ولكنَّنا لا نلمِس. ولو احترق أمامَنا كلُّ بَخور العربية فإننا نسير في طريقنا من غيرِ أن نَشتمَّ رائحة. نحن لا نرى الزَّارِع عائدًا من حقلِه عند المساء، ولا نسمَع مِزمار الراعي وهو يقود قَطيعه إلى العلَف. لا نَمدُّ أذرُعنا لنُلامِس غُروب الشمس، ومَشامُّنا لا تجوع فيما بعد لعبير زهور شارون. أجل، نحن لا نُكرم ملوكًا بدون ممالك، ولا نَسمَع أنغام القِيثارة ما لَم نَضَعْ أوْتارَها بأيدينا، ولا نرى الوَلَد الذي يلعب في بُستان زيتوننا كما لو كان هو نفسه شجرة من الزَّيتون. وجميع الأقوال يجِب أن تَخرجَ من شفاهٍ من اللَّحم، وإلا فنَحنُ نحَسب بعضنا بعضًا خُرسًا وصُمًّا. بالحقيقة إننا ننظر ولا نُبصِر، ونُصغي ولا نسمع، ونأكُل ونشرَب ولكنَّنا لا نذوق. وفي جميع هذا يقوم الفرق الأوَّلِي بين يسوع الناصري وبينَنا. فقد كانت جميع حواسِّه تتجدَّد فيه أبدًا، وكان العالَم في نظره جديدًا دائمًا. ولم يكُن نظُرُه إلى تمتمة الطِّفل بأقلِّ من نظرِه إلى صراخ الإنسانية بكامِلِها، في حين أنها في نظرنا تمتمةُ طفلٍ لا أكثرَ ولا أقل. وكان جِذر الشَّقيق الأصفر في عقيدته حنينًا إلى الله، ولكنَّه ليس في نظرنا سوى جِذرٍ بسيط. يسوع ابن الإنسان
أوريا الشيخ الناصري كان غريبًا في وَسطنا كان غريبًا في وَسطنا، وكانت حياتُه مستورةً تحت نِقابٍ مُظلِم، لم يَسِر في طريق إلهِنا، ولكنه اتَّبع طرُق الأشرار والأردِياء. قد ثارت صَبْوته ورفضت حلاوة الحليب الذي في طبيعتنا. وكان شبابه مُلتهِبًا كالقشِّ اليابِس المُحترِق في الليل. وعندما صار رجلًا حمل السلاح ضِدَّنا جميعًا. إن أمثال هؤلاء الرجال يُحبَل بهم في جُزُر اللُّطف البشري ويُولَدون في العواصِف الشريرة، وفي العواصِف الهوجاء يَعيشون يومًا ثمَّ يهلَكون إلى الأبد. ألا تتذكَّرونه جيِّدًا وهو في عَهد الفِطام، يُجادِل شُيوخَنا العُلماء ويَهزأ بجلالِهم ووقارِهم؟ أفلا تذكُرون شبابه، إذ عاش بين المِنشار والإزميل رافِضًا أن يُرافِق أبناءنا وبناتِنا في أيام الأعياد ومُختارًا العُزلة لنفسه؟ ولم يكن يردُّ تحيَّةً لمن يُحيِّيه من المارَّة كأن طِينتَه أرفَعُ من طِينتِنا. قد رأيتُه أنا نفسي مرةً في الحقل فحيَّيتُه، فابتسَمَ فقَط، فرأيتُ في ابتسامته غَطرسةً واحتقارًا. وبعد ذلك بقليلٍ من الزَّمن ذهبَت ابنتي إلى الكَرم مع رَفيقاتِها لتقطف العِنب، وهي أيضًا خاطَبَتْه فلم يَرُدَّ عليها جوابًا. بيد أنه وَجَّه خِطابه لجميع العامِلات في الكَرْم، كأنَّ ابنتي لم تكُن معَهُن. وعندما ترك أهلَه وهام في البلاد خسِر كلَّ شيءٍ وصار ثرثارًا، وكان صوته كالمِخلَب يَنشَب في أجسادنا، ولا يزال صدى صوتِه ألمًا في ذاكِرتنا. إنه لم يتكلَّم بغير الشرِّ عنَّا وعن آبائنا وأجدادِنا، وكان لسانُه كالسِّهام المَسمومة في قلوبِنا. هذا هو يسوع. ولو كان هذا ابنًا لي لكنتُ أرسلتُه مع جيوش الرومانيِّين إلى بلاد العرب، ولكنتُ طلبتُ إلى القائد أن يَضعه في مُقدِّمة المُقدِّمة من الجيش في ساحة الحرب لتذهَبَ به سِهام العدوِّ وتُحرِّرني من غَطرَسَته ووقاحَتِه. ولكن لا ابن لي، وأنا شاكر ربي على ذلك؛ لأنه ماذا كان يُصيبني لو أن ابني كان عدوًّا لشعبه، وكان شَعري الأبيض اليوم يطلُب الرَّماد في عاره ولِحيَتي البيضاء تُحتَقَر وتُهان؟ يسوع ابن الإنسان
نيقوذيموس الشاعر أصغر الشُّيوخ في السنهدريم كثيرون هم الأغنياء الذين يقولون إن يسوع وقف في طريق نفسه وقاوَم ذاته، وإنه لم يعرِف فكره، وفي ضَياع هذه المعرفة عمل على تضليل ذاته. بالحقيقة ما أكثر البُوم التي لا تعرِف من الأغاني غير ما شابَهَ نَعيبها. أنا وأنت نعرِف مُشعوذي الكلام الذين لا يَحترِمون إلا من كان أكبر شَعوذةً منهم، هؤلاء هم الذين يحمِلون رءوسهم في سلالٍ إلى السُّوق ويَبيعونها بأوَّلِ ثمنٍ يُعرَض عليهم. نحن نعرِف الأقزام الذين يتحامَلُون على من تلمِس رءوسهم السماء، ونعرِف ما يقوله العَوسَج عن السِّنديانة والأَرُزَّة. إنَّني أُشفِق عليهم لأنهم لا يقدِرون أن يَصعدوا إلى الأعالي. إنني أُشفِق على الشَّوكة الجافَّة في حَسَدها للدَّردار الذي يجرؤ على الفصول. ولكن الشَّفقة، ولو أحاط بها أسف جميع الملائكة، فهي لا تحمِل لهم نورًا. إنَّني أعرِف اللَّعين الذي يتمايَل بأثوابه الرَّثَّة على أدنات الزَّرع ولكنَّه مَيِّت أمام الزَّرع وأمام الرِّيح المُترنِّمة. وأعرف العنكبوت التي لا جناح لها تحوك الشِّباك لاصطياد كلِّ ذي جناح. وأعرِف الماكِرين، ونافِخي الأبواق، وضارِبي الطبول، الذين لا يستطيعون في وَفرة ضجيجهم أن يَسمعوا قُنبرة السماء، ولا الريح الشرقية في الغابة. وأعرف الذي يُجذِّف في جميع الجداول ولكنه لا يجِد الينبوع، ويركُض مع جميع الأنهار ولكنه لا يجرؤ على السير إلى البحر. وأعرف الذي يُقدِّم يديه البليدَتَين إلى رئيس البنَّائين في الهَيكل، وعندما تُرفَض يداه البليدتان يَنبَري قائلًا في ظُلمة قلبه: سأهدِم كلَّ ما سيُبني. إنني أعرِف جميع هؤلاء، فهم الذين يعترِضون على أن يسوع قال مرة: إنَّني أحمِل سلامًا لكم، وفي مرة ثانية قال: إنَّني أحمل سيفًا. فهم لا يقدِرون أن يفْهَموا أنه نطَق بالحقيقة عندما قال: إنَّني أحمِل سلامًا لأبناء السلامة، وأضع سيفًا بين من يُحبُّ السلام ومن يُحبُّ السيف. ويتعجَّبون كيف أن الذي قال: إن مَملكتي ليسَت من هذا العالم، قال أيضًا: أعطوا ما لِقَيصر لقَيصر. ولكنهم لا يعلَمون أنهم إذا رغِبوا حقًّا في أن يكونوا أحرارًا ليدخُلوا ملكوت رَغَبات قلوبهم، فالواجِب يقضي عليهم ألَّا يقاوِموا الحارِس الواقِف على بوَّابة حاجتهم، ففي مَصلحتهم أن يدفعوا ذلك الرَّسم الحقير ليدخُلوا إلى تلك المدينة. هؤلاء هم القائلون: قد علَّم باللُّطف والحنان والمَحبَّة العائلية ولكنَّه لم يحفَل بأُمِّه وبإخوَتِه عندما كانوا يُفتِّشون عنه في شوارع أورشليم. وهم لا يعلمون أن أُمَّه وإخوَتَه كانوا يَودُّون في مَخاوف رغبتهم أن يُرجِعوه إلى مَصنع النجار. أما هو فكان يريد أن يفتح عيوننا لنُبصِر فجر يوم جديد. إن أُمَّه وإخوته كانوا يريدون أن يعيش في ظلِّ الموت. أما هو فقد استنهَد المَوت على تلك التلَّة ليظلَّ حيًّا في ذاكرتنا التي لا تنام. إنني أعرف هذه المَناجِذ التي تحفُر الأنفاق بدون غايةٍ معروفة. أليسوا هم الذين يتحامَلُون على يسوع بقولهم إنه كان يُعظِّم نفسه عندما قال للجموع: أنا الطريق والباب للخلاص، وإنه دعا نفسه الحياة والقيامة؟ ولكن يسوع لم يدَّعِ لنفسِه أكثر مما يَدَّعي شهر أيار في مدِّهِ. أفما كان له أن يُعلِن الحقيقة اللامِعة لأنَّ لمَعانها كان شديدًا؟ فقد قال بالحقيقة إنه الطريق والحياة والقيامة للقلب، وأنا نفسي أشهَدُ بصحَّة هذا القول. أفلا تتذكَّرونَني أنا نيقوذيموس، الذي لم يؤمن بغَير الشريعة وأوامر الناموس، وكان في مُقدِّمة الطائعين للقانون؟ فانظروا إليَّ الآن، ترَوا رجلًا يمشي مع الحياة، ويضحك مع الشمس من ابتسامتها الأولى للجِبال حتى تُسلِم نفسها إلى فِراشها وراء التِّلال. لماذا تتوقَّفون أمام كلِمة الخلاص؟ فأنا نفسي بواسطته حصلتُ على خَلاصي. فلا يُهمُّني اليوم ما سيُصيبني في الغد؛ لأنَّني أعرِف أن يسوع أنعَش منامي وجعل لي من أحلامي البعيدة رُفَقاء وأصدقاء للطريق. فهل أصير أصغر من إنسانٍ إذا آمنتُ بمن هو أعظم من إنسان؟ إن حواجز اللحم والدَّم قد سقطت عندما خاطَبني شاعر الجليل، وقد قبَضَت عليَّ روح، فارتفعت إلى الأعالي، وفي وسط الهواء جمعت أجنِحتي أغنية الهواء النقي. وعندما نزلتُ عن مَتن الريح وظهَرَت غرابَة آرائي في السنهدريم، فإنني حتى في ذلك المجلس الأعلى لم أخسَر أُغنيتي؛ لأن ضُلوعي، التي هي أجنِحتي بغير ريش، قد احتفظَت بالأُغنية وحرَسَتها. وكلُّ ما في الأرض الحقيرة من الفقر المُدقِع لن يستطيع أن يَسلُبَني كَنزي. قد تكلَّمتُ بما فيه الكفاية، دع الطُّرش يدفِنون تمتمةَ الحياة في آذانهم المَيِّتة، فأنا راضٍ بأنغام قِيثارته التي كان يحمِلها ويضرِب على أوتارِها عندما سمَّروا يدَي جسدِه على الصَّليب ونَزَفت منهما الدماء. يسوع ابن الإنسان
يوسُف الذي من الرَّامة بعد عشر سنوات الجَدْولان النابِعان من قلبِ يَسوع كان في قلب الناصري جَدْولان يجرِيان: جدول القرابة مع الله الذي سمَّاه أبًا، وجدوَل الهُيام الذي دعاه ملكوت العالم العلوي. وفي عُزلتي طالَما فكَّرتُ فيه، وتبِعتُ هذَين الجَدوَلَين النابِعين من قلبه، فعلى حافَة الجدول الأول وجدت نفسي، وكانت نفسي تارةً مُتسوِّلة وهائمة، وطورًا أميرة في بُستانها. ثمَّ تبِعتُ الجدول الثاني في قلبه، وفي طريقي وجدتُ رجلًا ضرَبه اللُّصوص وسرَقوا ذَهَبه، ولكن الابتسامة لم تُفارِق شفتَيه. ولكنَّني لم أبعُد قليلًا حتى وجدتُ اللُّصوص الذين سرَقوه. وبعد أن تأمَّلتُ وُجوهَهَم رأيتُ على وَجناتهم دُموعًا لم تذرفْها عيونهم بعد. ثمَّ سمعتُ خَرير هذين الجَدْوَلين في أعماقي أنا أيضًا، فامتلأتُ بهجة. عندما زُرتُ يسوع قبل أن يقبِضَ عليه بيلاطس البنطي والشُّيوخ بيومٍ واحد، تكلَّمْنا مليًّا. وسألتُه أسئلةً كثيرة. وقد أجاب على جميع مسائلي بكمال المَسرَّة. وعندما تركتُه عرفتُ أنه هو الربُّ والسيِّد لهذه الأرض التي نعيش فيها. وقد سقطَت الأَرُزَّة منذ عهد طويل ولكن عِطرها سيُقيم أبدًا. وسيَنشُد زوايا الأرض الأربع إلى الأبد. يسوع ابن الإنسان
جاورجيوس البيروتي في الغُرَباء كان يسوع مع أصدقائه في حَرج الصنوبر وراء سياجي، وكان يُخاطِبهم. فوقفتُ قريبًا من السياج أتسمَّع على كلامه، فقد عرفتُه من هو؛ لأن شهرته وَصلت إلى هذه الشواطئ قبل أن زارها هو. وعندما فرَغ من كلامه تقدَّمتُ إليه وقلتُ له: هَلُمَّ يا سيِّدي مع هؤلاء الرجال وَشَرِّف منزلي بزيارتك. فنظر إليَّ مُبتسمًا وقال: ليس في هذا اليوم يا صاح، ليس في هذا اليوم. وكان في كلِماته بَرَكة، وشعرتُ بأن صوته يَضمُّني كالرِّداء الصُّوفي في ليلةٍ بارِدة. ثمَّ التفتَ نحو أصدقائه وقال: انظروا رَجُلًا لا يحسَبُنا غُرَباء، ومع أنه لم ينظُرنا قبل اليوم فهو يدعونا إلى بيتِه. بالحقيقة إنه لا يُوجَد غُرَباء في ملكوتي. إن حياتنا هي حياة جميع الناس، وقد أعطيناها لنعرِف جميع الناس، وبتِلك المعرفة نُحِبُّهم. إن أعمال جميع الناس هي أعمالُنا بعينها الخفيَّة والظاهرة. أستحلِفُكم ألا تكونوا ذاتًا واحدة، بل ذوات عديدة. مالك البيت ومن لا بيت له، الزَّارع والزرزور الذي يلتقِط الحُبوب قبل أن تنام في الأرض، المُعطي الذي يُعطي بِشكرٍ والمُستَعْطي الذي يأخُذ بكبرياء ومَعرِفة. إن جَمال النهار لا يقتصِر على ما تَرونه أنتم، بل يشمَل ما يراه غيرُكم أيضًا. لأجل هذا قد اخترتُكم من بين الكثيرين الذين اختاروني. ثمَّ نظَر إليَّ وتبسَّم ثانيةً وقال: إنَّني أقول كلَّ هذا لك أنت أيضًا، وأنت أيضًا ستذكُر كلِماتي. ثمَّ توسَّلتُ إليه قائلًا: يا سيِّدي أفلا تَزورني في بيتي؟ فأجاب: إنَّني أعرِف قلبَك وقد زرتُ بيتَك الأكبر. وعندما مشى قليلًا مع تلاميذه قال: أسعَدَ الله مَساءك وليُكَبِّر الله بيتَك حتى يُؤوي جميع الهائمين في هذه الأرض. يسوع ابن الإنسان
فيليمون الصَّيدلي اليُوناني يَسُوع أمير الأطباء كان النَّاصريُّ سيِّد الأطباء في شَعبه، وما من رجل غيره عرَف ما عرَفه هو عن أجسادِنا وعناصِرها ومُحتوياتها. فقد أبرأ من أمراضٍ غريبة لم يَعرِفها اليُونانيُّون ولا المِصريُّون. يقولون إنه أقام الأموات من القبور، وإذا كان هذا حقيقيًّا أم لا فإنَّه يُظهِر قوَّته؛ لأن أعاظِم الأمور لا يُمكِن أن تُنسَب إلا لِمَن يستطيع أن يقوم بالأمور العظيمة. ويقولون أيضًا إن يسوع زار الهند وبلاد ما بين النَّهرين، وإن الكَهَنة الذين كانوا في تلك البلاد أعلنوا له المَعرِفة المَخفيَّة في أعماقنا. ولكن من يدري، فقد تكون الآلهة مَنحتْه تلك المَعرفة مُباشرةً وليس بواسِطة الكهنة؛ لأن الذي تُخفيه الآلهة عن جميع الناس جيلًا كاملًا كثيرًا ما تُعلِنه لرجلٍ واحد في لحظةٍ واحدة، وأبولُّو إذ وضع يدَه على قلب الجهول الوَضيع جعلَه حكيمًا رفيعًا. إن أبوابًا كثيرةً قد فُتِحت لأبناء صُور وتيبت، وهنالك كثير من الأبواب التي كانت مُوصدةً ومختومة فانفتحت أمام هذا الرجل؛ فقد دخل إلى هَيكل النفس، الذي هو الجَسَد، ورأى الأرواح الشريرة التي تتآمَرُ على قُوَّتِنا وبأسِنا، كما رأى الأرواح الصالِحة التي تَغزِل خُيوطها. وفي عَقيدتي أنه كان يَشفي المَرضى على سبيل المُقاومة والمُعارضة، ولكن الطريقة التي اتَّخذها لنفسه لم تكن معلومةً لدى فلاسِفَتِنا، فكان يُدهِش الحُمَّى بمُلامَسته الجليدية فترتدُّ هاربة، ويُذهِل الأعضاء اليابِسة بقوَّةِ هدوئه العجيب فتُطيعه وتعود إلى سلامتها. أجل، قد عرَف الناصريُّ العُصارة الزائلة في قِشرة شجرتِنا المُتشقِّقة — ولكن كيف اتَّصل بتِلك العُصارة بأصابعه؟ ذلك ما لا أعرِفه! وعرَف الفولاذ الصحيح تحت الصدئ — ولكن ما مِن رجلٍ يقدِر أن يُحدِّثنا كيف حرَّر السيفَ من صدئه وأعاد إليه بَريقَه. كثيرًا ما يخطُر لي أنه كان يُصغي إلى أعمق الآلام التي في جميع الكائنات الحيَّة أمام الشمس، فيَعمَد في الحال إلى رفْعِها ومُساعدتها. ليس بِمَعرفته فقط بل بإظهار طريق قُوَّتها لتنهَض من آلامِها صحيحةً سالِمة. بيد أنه لم يَعبأ قطُّ بمَقدِرَته كطبيب، بل كان جُلُّ همِّه مُعالَجة المواضيع الدينية والسياسية في هذه البلاد. وأنا مُتألِّم لأجل هذا؛ لأنَّنا قبل جميع الأشياء يجِب أن نكون أصحَّاء الأجساد. ولكنَّ هؤلاء السوريِّين إذا أصابَهم مرَض لا يُفتِّشون عن الدَّواء، بل يَنشُدون المُباحَثة والمُجادلة. ومُصيبتُهم الكبرى أنَّ أعظم أطبَّائهم أعرَضَ عن فنِّه المُفيد واختار أن يكون خطيبًا في ساحة المَدينة. يسوع ابن الإنسان
مريم المَجدليَّة كان فمِه كقلْبِ الرُّمانة كان فمِه كقلبِ الرُّمانة، وكانت ظِلال عينيه عميقة. كان لطيفًا كالرجُل الذي يعرِف قوَّته. قد رأيتُ في أحلامي ملوك الأرض واقِفين احترامًا في حضرته. إنَّني أودُّ أن أتكلَّم عن وجهه، ولكن كيف أستطيع ذلك؟ فقد كان كالليلة التي لا ظُلمة فيها، وكالنهار الذي لا يعرِف ضجيج النهار. كان وجهًا كئيبًا، ولكنَّه كان مُمتلئًا فرحًا. إنني أتذكَّر جيِّدًا كيف رفع يده مرةً نحو السماء، فبدَت أصابِعه المُتفرِّقة كأغصان الدَّرْدار. وأذكره جيِّدًا وهو يَقيس الماء بِخُطواته. إنه لم يكن يمشي. فهو نفسه كان طريقًا فوق الطريق، كما أن السحابة التي فوق الأرض تنحدِر لتُنعِش الأرض. بيْد أنني عندما وقفتُ أمامه وخاطبتُه كان رجلًا، وكان وَجهه يملأ عين الناظِر إليه بقوَّة. وقد قال لي: ماذا تُريدين يا ميريام؟ إنَّني لم أجاوِبْه، ولكنَّ أجنِحتي احتضنَتْ سِرِّي، فسَرَت الحرارة في جسدي. وإذ لم أقدِر على احتِمال نُوره تركتُه وسِرتُ في طريقي، ولكن عاري فارَقَني. ولم يبقَ لي سوى الحياة فقط، والرَّغبة في أن أكون وحدي لتضرِب أصابِعُه على أوتار قلبي. يسوع ابن الإنسان
يُوثام الناصري إلى أحد الرُّومانيِّين في الحياة والوجود أنت يا صديقي كجميع الرُّومانيين، تودُّ أن تتصوَّر الحياة أكثر من أن تحياها، وتُفضِّل أن تحكُم الأرض ولا تكون محكومًا من الرُّوح. أنت تُفضِّل أن تقهَر الشعوب فيَلعنُك أبناؤهم، على أن تبقى في روما مُباركًا سعيدًا. أنت لا تفكِّر إلَّا في الجُيوش الزاحِفة والسُّفن الماخِرة في البحر. إذن كيف تستطيع أن تفهَم يسوع الناصري، الرجُل البسيط الوحيد الذي جاء بغير الجيوش والسفن، ليؤلِّف مملكةً في القلب وإمبراطورية في حُريَّة فضاء النفس؟ كيف تقدِر أن تفهم هذا الرجل الذي لم يكن مُحاربًا لكنه جاء بقوَّة الأَثِير القدير؟ فهو لم يكن إلهًا، بل كان إنسانًا مِثلنا، ولكن فيه نهَض مُرُّ الأرض ليُلاقي لبانَ السماء، وفي كلماته تعانقَتْ تَمتَمتُنا مع همْسِ غير المنظور، وفي صوته سمِعْنا أنشودة لا يُسبَر غَورُها. نعم، كان يسوع إنسانًا ولم يكن إلهًا، وفي هذا مُنتهى عجَبِنا ودَهشتِنا. ولكن أنتم الرُّومانيين لا تتعجَّبون إلَّا أمام الآلهة. وما من رجلٍ يُدهِشُكم؛ لأجل ذلك لا تفهمون الناصري. فقد اختصَّ هو بشباب الفكر، أما أنتم فقد اختصصْتم بشيخوخته. أنتم تَحكموننا اليوم، ولكن فلننظُر يومًا آخر. من يدري إذا كان هذا الرَّجُل الذي لا جُيوش ولا سُفن لديه سيحكُم الغد؟ نحن الذين نتَّبِع الرُّوح ستَنْسَكِب أعراقُنا دماءً في سَفرِنا وراءه. ولكن رومة ستضطجِع كالهَيكل العَظميِّ في الشمس. نحن سنتألَّم كثيرًا، ولكنَّنا سنصبِر، وسنعيش، ولكن رومة يجِب أن تَصير إلى التُّراب. ولكن إذا كانت رومة، بعد أن تُوضَع من رِفعتِها وتصير إلى ضِعَتِها، تتلفَّظ باسمه، فإنه يُصغي إلى صَوتِها وينفُخ في عِظامها نسمة حياةٍ جديدة، لتنهَض ثانيةً مدينةً حيَّة بين مُدن الأرض. كلُّ هذا سيفعله بغير جيوش ولا عبيد يُجذِّفون في قَواربه؛ لأنه سيكون وحيدًا. يسوع ابن الإنسان
أفراييم من أريحا وليمةُ العُرس الثاني عندما جاء ثانيةً إلى أريحا ذهبتُ إليه وقلتُ له: يا مُعلِّم، غدًّا يتَّخذ ابني لنفسه زَوجة، فأرجو من فضلِك أن تَحضُر إلى وليمةِ العُرس وتشرِّفنا بحضورك، كما شرَّفتَ العُرس في قانا الجليل. فأجاب وقال: بالحقيقة إنِّي كنتُ ضيفًا في وليمةِ عُرسٍ مرةً، ولكنَّني لن أكون ضيفًا ثانيةً، فأنا نفسي اليوم عروس. فقلتُ له: أتوسَّل إليك يا مُعلِّم أن تأتي إلى وليمةِ عُرس ابني. فتبسَّم كأنه يُريد أن يوبِّخَني، وقال: لماذا تتوسَّل إليَّ؟ ألا يُوجَد عندك كفاية من الخمر؟ فقلتُ له: إن زِقاق الخمر مُمتلئة يا مُعلِّم، بيد أنَّني أتضرَّع إليك أن تحضُر إلى وليمةِ عُرس ابني. حينئذٍ قال لي: من يدري؟ فقد أحضُر. نعم قد أحضُر إذا كان قلبُك مَذبحًا في هَيكلك. وفي الغدِ تزوَّج ابني، ولكن يسوع لم يأتِ إلى وليمةِ العُرس. ومع أنه جاءنا ضيوف كثيرون فقد شعرتُ بأنه لم يأتِ أحد. بالحقيقة إنَّني أنا نفسي الذي أستقبِل الضيوف لم أكن هناك. ومن يدري؟ فلعلَّ قلبي لم يكُن مَذبحًا عندما دَعوتُه. وقد أكون رغِبتُ في أعجوبةٍ ثانية. يسوع ابن الإنسان
برقا التَّاجِر الصُّوري في البيع والشراء في عقيدتي أنه لا اليهود ولا الرُّومانيُّون فهِموا يسوع، حتى ولا تلاميذه أنفسهم الذين يُبشِّرون اليوم باسمه. فالرُّومانيُّون قتَلُوه، وهذه كانت زلةً لهم، والجليليُّون أحبُّوا أن يَصنعوا منه إلهًا، وهذه كانت غلطةً لهم. كان يسوع من قلب الإنسان. قد قطعتُ البحار السبعة بمراكِبي، وتعاملتُ مع الملوك والأمراء والمُحتالين والخدَّاعين في ساحات المُدن القصيَّة، ولكنَّني لم أرَ رجُلًا يفهم التُّجَّار كما فهِمَهم يسوع. سمِعتُه مرةً يضرِب هذا المَثل قال: سافر أحدُ التُّجَّار من بلاده إلى بلادٍ غريبة، وكان له خادِمان، فأعطى كلًّا منهما قبضةً من الذهب، وقال لهما: كما أنَّني أمضي إلى بلاد الغُربة وَراء الرِّبح هكذا يجدُر بِكُما أن تَطلُبا الرِّبح من أموالكما، فاعتَصِما بالدِّقة في مُعامَلَة الناس أخذًا وعطاءً. وبعد سنةٍ رجَع التَّاجِر، فسأل خادِمَيه عمَّا فعلاه بذَهَبه، فقال له الخادم الأول: تأمَّل يا سيِّدي، فقد بعتُ واشتريتُ وربِحت. فأجابه التَّاجِر قائلًا: الرِّبْح هو لك؛ لأنك تصرَّفتَ حسنًا وكنتَ أمينًا لي ولنفسك. ثمَّ وقفَ الخادِم الثاني، وقال له: يا سيِّدي قد خفتُ أن أخسرَ أموالك ولذلك لم أشترِ ولم أبِع، وهو ذا مالك كلُّه في هذا الكيس. فأخذ التَّاجِر ذَهَبه، وقال له: يا قليلَ الإيمان، إنك لو تاجرتَ وَخسِرتَ لكان ذلك خيرًا لك من أن تكون كسولًا؛ لأنه كما أن الرِّيح تُفرِّق البذور وتنتظِر الأثمار هكذا يجِب أن يفعل كلُّ التجار؛ لذلك كان الأجدَر بك أن تخدُم الآخرين. وعندما تكلَّم يسوع بهذا، فإنه وإن لم يكن تاجِرًا فقد كشف القِناع عن سرِّ التِّجارة. وفوق هذا. فإن أمثاله كثيرًا ما كانت تحمِل إلى فكري بُلدانًا أبعَد من أسفاري، ولكنَّها أقرَب من بَيتي ومُقتنياتي. ولكنَّ الناصري الشابَّ لم يكُن إلهًا، ويؤلِمُني أن أرى أتباعه يَسعون أن يعملوا من هذا الحكيم إلهًا! يسوع ابن الإنسان
فومية رئيسة كاهِنات صيدا إلى رَفيقاتها الكاهِنات احمِلنَ أعوادَكُنَّ لأُغَنِّي. اضرِبنَ على الأوتار الفضيَّة والذَّهبية، فإني أُريد أن أترنَّم بذِكرى الرجُل الشُّجاع الذي قتَلَ وَحشَ الوادي، ثمَّ جلس ينظُر إلى ما قتل بعين الشَّفَقة. احملنَ أعوادَكُنَّ لنُغنِّي معًا للسِّنديانة الرَّفيعة على الأعالي. لنترنَّم بذكرى الرجل الذي يلمِس قلبُه السماء وتُحيط يده بالأوقيانوس، الذي قبَّل شفَتَي الموت الشَّاحِبتَين، ولكنَّه يرتَجِف الآن أمام فَمِ الحياة. احمِلنَ أعوادكن لنُغنِّي معًا للصيَّاد الجريء على التَّلَّة، الذي اهتدى إلى الحيوان، وأطلَق سَهمه غير المنظور، فأسقَط القَرنَ والنَّابَ إلى الأرض. احملْنَ أعوادَكنَّ لنُغنِّي معًا للشابِّ الباسِل الذي غلَب مُدن الجبال، ومُدن السهول المُتجمِّعة كالأفاعي في الرِّمال، فهو لم يُحارب ضدَّ الأقزام بل ضِدَّ الآلهة الجائعة لِلَحْمِنا والمُتعطِّشة لدَمِنا. وكالصقر الذهبي الأول لم يُزاحم غير النُّسور؛ لأن أجنحته كانت كبيرة وفَخورة، فلم تشأ أن تضرِب من هو أضعفُ منها جناحًا. احملنَ أعوادَكُنَّ لنُغنِّي معًا أُغنية البحر والجَرْف. فالآلهة قد ماتوا، وهم مُضطجِعون بهدوءٍ في الجزيرة المَنسيَّة في البحر المهجور. أما الذي قتلَهم فإنه جالس على عرشه، قد كان في شرخ شبابه لأن الربيع لم يكن قد أعطاه لِحية، وكان صيفُه فتيًّا في حقلِه. احملنَ أعوادَكنَّ لنُغنِّي معًا للعاصِفة في الغابة، التي تُحطِّم الغُصن اليابِس والفَرع العاري من الوَرَق، بيد أنها تُرسِل الجِذر الحيَّ ليُمعِنَ في امتِصاص حليبه من ثَدْي الأرض. احملنَ أعوادَكُنَّ لنترنَّم معًا بأنشودة حبيبتِنا الخالدة. مَهلًا يا رفيقاتي، ولا تَضربنَ على أوتارِكُنَّ. اترُكْنَ أعوادَكن، فنحن لا نقدِر أن نُغنِّي الآن. لأنَّ الهَمسَ الضعيف الذي تبعَثُه ألحانُنا لا يقدِر أن يصِل إلى عاصِفةٍ ولا قوَّةَ له على اختِراق عظمةِ صَمْته. اترُكنَ أعوادكُنَّ وتَجمَّعنَ حواليَّ لأعيد أقواله على مَسامِعِكنَّ وأُخبِركنَّ بأعماله؛ لأن صدى صوتِه هو أعمقُ من مَحبَّتِنا. يسوع ابن الإنسان
بِنيامين الكاتِب دَعِ الأموات يَدفِنون مَوتاهم يقولون إن يسوع كان عدوًّا لرُومة ولليهوديَّة. أما أنا فأقول إن يسوع لم يكُن عدوًّا لإنسانٍ ولا لجِنسٍ من الناس. فقد سمِعتُه يقول إن طُيور الجوِّ وقُنَنَ الجبال لا تهتمُّ بالأفاعي في أجحارِها وأنفاقِها. دع المَوتى يدفِنون موتاهم، والبَس أثواب ذاتِك بين الأحياء، وحلِّق رفيعًا. لم أكن من تلاميذه. ولكنَّني تَبِعتُه مع الجماهير الكثيرة التي تَبِعَتْه للتَّأمُّل بوجهه. وكان ينظُر إلى رومة وإلينا نحن عبيد رومة كما ينظُر الأب إلى أولاده اللاعبين بلعبِهم وهم يتخاصَمون فيما بينهم على اللُّعبة الكبيرة، وكان يضحَك من أعاليه. أجل، كان يسوع أعظم من الولاية والأمة، بل كان أعظمَ من الثورة. كان وحيدًا مُنفردًا، وكان يَقظةً كاملة. وقد بكى كلَّ ما لم نَسكُبه من الدُّموع وتبسَّم كلَّ ثَورتنا وتمرُّدِنا. ونحن قد عَرفنا أنه كان في طَوقه أن يُولَد مع جميع غير المَولودين بعد، فيُساعِدهم على أن يَرَوا، ليس بِعيونهم، بل ببصيرته. كان يسوع بداءةً لمَملَكةٍ جديدة على الأرض، ولن يكون لتلك المملكة انتهاء. فقد كان ابنًا وحفيدًا لجميع الملوك الذين بنَوا مملكة الروح. ولم يحكُم عالمنا أحدٌ قطُّ إلَّا ملوك الرُّوح. يسوع ابن الإنسان
زكا في مصير يسوع أنتم تؤمنون بما تَسمعونه يُقال أمامكم، فآمِنوا بالأحرى بما لا يُقال؛ لأنَّ صمت الناس أقرَبُ إلى الحقيقة من أقوالهم. وتسألون إذا كان يسوع قادِرًا أن يتخلَّص من عار موته ويُنقِذ أتباعَه من الاضطِهاد. وأنا أُجيب أنه بالحقيقة كان قادِرًا أن يتخلَّصَ من الموت لو أراد، بيد أنه لم يطلُب السلامة، ولم يُهمَّه أن يَحمي قَطيعه من ذئاب اللَّيل. فقد عرف قِسمته، وعرف ما يحمِله الغد لمُحبِّيه المُخلِصين؛ ولذلك سبَق فأنبأ بما سيُصيب كلَّ واحدٍ منَّا. إنه لم يَنشُد موته ولكنَّه قبِلَ الموت، كما أن الفلَّاح الذي يُواري حِنطَته في قلب الأرض يَقبَل الشتاء، ثم يَنتظِر الربيع والحصاد، وكما يَضع البنَّاء أكبر الحِجارة في الأساس. إن جماعَته قد تألَّفت من رجالٍ من الجليل ومن مُنحدَرات لبنان. وكان في مَنال مُعلِّمنا أن يَرجِع بنا إلى بلادِنا فنعيش مع شبابه في بساتيننا حتى تأتي الشَّيخوخة فترُدَّنا إلى قلب السنين. هل قام في طريقه حاجِزٌ يردُّه إلى هياكل ضَياعِنا حيث كان الناس يقرءون الأنبياء ويَحسُرون القِناع عن قلوبهم؟ ألم يقدِر أن يقول: ها أنا ماضٍ إلى الشَّرق مع الرِّيح الغربيَّة، وبقولِه هذا يَصرِفُنا بابتسامةٍ على شفتيه؟ نعم كان قادرًا أن يقول لنا: ارجِعوا إلى أهلِكم لأنَّ العالم غير مُستعدٍّ لاستقبالي؛ ولذلك سأرجِع بعد ألف سنة، فعلِّموا أولادكم أن ينتظروا عَودَتي، فقد كان قادرًا على كلِّ هذا لو أراده. ولكنَّه عرَف أنه لكي يَبني الهَيكل غير المنظور يجِب عليه أن يضَع نفسه حَجَر زاويةٍ في أساسه، ويضَعَنا حوالَيْه حصًى صغيرة تلتَصِق به لقِوام البناء. وعرَف أيضًا أن عُصارة شجَرتِه المُمتدَّة أغصانها في السماء لا تأتي إلَّا من جُذورها؛ ولذلك سكَب دَمَه على جُذورها، ولم يحسَب ذلك ضحيَّةً بل ربحًا. الموت يكشِف الأسرار، وقد كشف موت يسوع سِرَّ حياته. فلو أنه هرَب منكم وأنتم أعداؤه لكنتُم غلَبتُم العالم؛ ولذلك لم يهرُب؛ لأنه ما من رجلٍ يربَح الكلَّ إلا إذا أُعطى الكُل. نعم، نعم كان في مَقدِرة يسوع أن يهرُب ويعيش إلى شيخوخةٍ كاملة، ولكنَّه عرَف مرور الفصول، ورغِب في تَرنيم أُنشودة نفسه. أيُّ رجلٍ يُجابِهُ عالمًا مُتسلِّحًا ولا يُفضِّل أن ينغلِبَ لحظةً لكي يَسودَ على جميع الأجيال؟ والآن، أتُريدون أن تَعرِفوا من قتَل يسوع بالحقيقة، الرومانيُّون أم كهنة أورشليم؟ فاعلَموا أنه لا الرُّومانيُّون قتلوه، ولا الكهنة، ولكن العالَم بأسرِه وقفَ على تلك التَّلَّة ليُعطِيَه حقَّه من الاحترام. يسوع ابن الإنسان
يوناثان بين زَنابِق المياه كنتُ مع حبيبتي نُجذِّف في أحد الأيام في بُحيرةٍ من الماء العذْب، وكانت تِلال لبنان تُحيط بنا. وكُنَّا نَمرُّ بالصفصاف الباكي، وكُنَّا نتمتَّع بظِلاله الجميلة المُرتَسِمة حَوالَيْنا. وفيما أنا أُجذِّف سائرًا بالقارِب في المياه، أخذَت حبيبتي قِيثارتها وشرَعَتْ تُغنِّي هكذا: أي زهرٍ غير عرائس النيل يعرِف المياه والشَّمس؟ وأي قلبٍ غير قلبِها سيعرِف الأرض والسماء؟ تأمَّل يا حبيبي هذه الزَّهرة الذَّهبيَّة العائمة بين العلوِّ والعُمق كما نَسبَح أنت وأنا بين المَحبَّة التي كانت منذ الأزل وستظلُّ إلى مُنتهى الدُّهور. حَرِّك مِجْذافَك يا حبيبي لأضرِب على أوتار قِيثارتي لنتْبَع الصفصاف ولا نُهمِل زنابق المياه. في الناصِرة شاعر قلبُه كقلب عرائس النيل، وقد زار هذا الشاعر نفس المرأة، وهو يعرِف عطَشَها المُتفجِّر من المياه، ويعرِف مَجاعَتها للشمس في حين أنَّ كلَّ شِفاهها شبعانة. يقولون إنه يعيش في الجليل. أما أنا فأقول إنه يُجذِّف معنا. أفلا تقدِر أن تنظُر وجهه يا حبيبي؟ أفلا تَستطيع أن ترى أنه حيث ينحني الصَّفصاف وتجتمِع ظِلالُه في المياه فهناك يتحرَّك هذا الشاعر كما نتحرَّك نحن؟ جميل أن نعرِف شباب الحياة أيُّها الحبيب. جميل أن نعرِف أفراحه المُترنِّمة. أودُّ لو أن مَجاذِيفك تَظلُّ أبدًا في يدِك، وأن تظلَّ لي قِيثارتي ذات الأوتار، حيث تضحك عرائس النيل في الشمس ويَغتسِل الصفصاف في المياه، ويُرافق صوته حركات أوتاري. حرِّك مِجذافَك يا حبيبي لأضرِب على أوتار قِيثارتي. يسوع ابن الإنسان
حنَّة من بَيت صيدا سنة ٧٣ عمَّتي في صِباها قد تركتْنا عمَّتي في صِباها لتَعيش في كوخٍ قريب من كَرمٍ قديم لوالِدها. وكانت تعيش وحدَها، وكان أبناء المَزارع المُجاورة يأتون إليها في أمراضِهم، وكانت تَشفيهم بالأعشاب الخَضراء، وبالجُذور والأزهار اليابِسة في الشمس. وكانوا يَحسَبونها نَبيَّة، ولكن فريقًا من الناس دَعوها عرَّافة ومُشعوِذة. وفي أحد الأيام قال لي والِدي: خُذي هذه الأرغِفة من خُبز الحِنطة إلى أُختي، وهذه الجرَّة من الخَمر والسلَّة من الزَّبيب. فوضعتُ كلَّ هذا على ظهر حمار، وسِرتُ في طريقي حتى بلغتُ الكَرم، ووصلتُ إلى كوخ عمَّتي، ففرِحَت برؤيتي جِدًّا. فيما نحن جلوس في فَيء النهار مرَّ بنا رَجلٌ على الطريق، وحيَّا عمَّتي قائلًا: نعمتِ مساء، ولتَحلَّ عليك بركة الليل. فنهضَت للحال ووقفتْ أمامه إجلالًا واحتِرامًا وقالت: ونعمتَ مساء يا سيِّد جميع الأرواح الصالِحة وغالِب جميع الأرواح الشريرة. فنظَر إليها الرَّجُل بِعَينينِ تذوبان رِقَّةً وسار في طريقه. أما أنا فضحِكتُ في قلبي؛ لأنِّي ظننتُ أن عمَّتي مجنونة، ولكنَّني أعرِف اليوم أنها لم تكُن مجنونة؛ لأنَّني أنا هي التي لم تفْهَم. وقد علِمَتْ بِضَحِكي، مع أنه كان مَخفيًّا في قلبي. ولذلك قالتْ لي بغير غَضَب: اسمَعي يا بُنيَّتي، وأصغي وتذكَّري كلامي، إن هذا الرجُل الذي مرَّ بنا الآن، كخَيال الطير الطائر بين الشمس والأرض، سيتغلَّب على القَياصرة وإمبراطورية القياصرة، وسيُبارِز الثَّور المُجنَّح في بلاد الكلدان والسَّبُعَ ذا الرأس البشري في مصر، وسيقهرهُما، وسيحكُم العالَم بأسره. ولكن هذه الأرض التي يمشي عليها الآن ستَصير إلى لا شيء، وأورشليم الجالِسة بغطرسةٍ على تلَّتِها ستُطرَد مَخزِيَّة في الدُّخان أمام رِيح الخَراب. وعندما تلفَّظَتْ بهذه الكلِمات تحوَّل ضحكي إلى هدوءٍ وسكون، فقلتُ لها: ومن هو هذا الرجُل؟ ومن أي بلادٍ وأيَّة قبيلةٍ جاء؟ وكيف سيغلِب الملوك العُظماء، وممالك الملوك العظماء؟! فأجابت: قد وُلِد في هذه البلاد، ولكنَّنا رأيناه بأحلام حنينِنا منذ بداءة السِّنين، وهو من جميع القبائل؛ ولذا فإنه لا يَختصُّ بواحدةٍ منها، وسيغلِب بكلمة فَهْمه ولَهيبِ روحه. ثمَّ نهضتْ فجأةً ووقفَت كالصَّخرة الراسِخة وقالت: فلْيُسامِحني ملاك الرَّبِّ على التلفُّظ بهذه الكلِمة أيضًا، وسيُقتَل، ويُدرَج شبابه بالأكفان، ويَضطَجِع بصمتٍ إلى جانِب قلب الأرض الصامِت، ستَنُوح عليه بناتُ اليهوديَّة. ثمَّ رفعَتْ يدَيها نحوَ السماء وتكلَّمت ثانيةً وقالت: ولكنَّه سيُقتَل بالجَسَد فقط. وسينهَض بالرُّوح ويخرُج بجيوشه من هذه الأرض التي تُولَد فيها الشمس إلى الأرض التي تُقتل فيها الشمس عند المساء. وسيكون اسمُه مقدَّمًا بين جميع الأمم. كانت عَمَّتي نبيَّة طاعِنة في السنِّ عندما قالت هذه الأقوال. أما أنا فكنتُ فتاةً صغيرة، حقلًا لم يُفلَح بعد، وحَجرًا لم يُوضع بعد في حائط. بيد أن كلَّ ما نظَرتْهُ في مرآة فِكرِها قد حدَث أمام عيني. قد نهض يسوع الناصري من الموت، وقاد رِجالًا ونساءً إلى بلاد غروب الشمس، والمدينة التي أسلَمَتْه للمُحاكمة صارت إلى الخراب. وفي قاعة المحاكمة حيث جرَت مُحاكمته وحُكِمَ عليه بالموت، ينعِق البُوم بمراثيه، والليل يذرِف ندى قلبه دُموعًا على الرُّخام المُتحطِّم. وأنا اليوم شيخة حنَتِ السُّنون ظهرها. وقد مات أهلي وصارت أُمَّتي إلى الفناء. وقد رأيتُه مرةً واحدة بعد ذلك اليوم، وسمِعت صوته ثانية، وكان ذلك على رأس تلَّة عندما كان يُخاطِب أصدقاءه وأتباعه. وعلى رغم شَيخوختي الحاضِرة ووِحدتي المريرة فهو يزورني في أحلامي، فهو يأتي كملاكٍ أبيض ذي جناحَين، فيُخرس بنعمته رُعب ظُلمتي، ويرفعُني إلى عالمٍ رفيع من الأحلام العُلوية. إنني ما زلتُ حقلةً غيرَ مَفلوحة، وثمرة ناضِجة لم تسقُط عن أُمِّها. وأعظم ما أملِكه في هذا العالم هو حرارة الشمس وذكرى ذلك الرجُل. وأنا أعرِف أنه لن يقوم في أُمَّتي ملك ولا نبيٌّ ولا كاهِن كما أنبأتْ عمَّتي من قبل. لأنَّنا سنسير من الوجود مع مجاري الأنهار ولن يُعرَف اسمُنا. ولكن الذين عبروا مياهه في وسط مَجاريها ستظلُّ ذِكراهم في العالم؛ لأنهم عبروا مِياهه في وسط مجاريها. يسوع ابن الإنسان
منسى المُحامي الأورشليمي خِطاب يسوع وحركاته نعم، قد سمِعتُه غير مرة مُتكلِّمًا، فقد كان الكلام حاضرًا على شفتَيه في كلِّ وقت. وقد أُعجِبتُ به كرجلٍ وليس كزعيم؛ لأن مَواعِظه كانت تفوق ذَوقي، أو لعلَّها كانت تفوق أفكاري؛ لأنني لا أحبُّ أن يَعظَني أحد. والذي سحَرَني فيه هو صوته وإشارته وليس مادَّة خِطابه، نعم قد سحَرَني ولكنَّه لم يُقنِعْني؛ لأنه كان كثير الإبهام، بعيد الخَيال، وافِر التلبُّس؛ ولذلك لم يصِل إلى فِكري. قد عرفتُ كثيرين من أمثاله، ولكنَّهم لم يكونوا مُثابرين على أعمالهم ثابِتين في جهادهم نظيره، فقد سحَرَت فصاحتهم آذان الناس وأفكارهم الظاهرة، ولكنهم لم يبلُغوا إلى هياكل القلوب. ومن الأسف أن نرى أعداءه يُحيطون به ويبالِغون في اضطِهاده حتى الموت؛ لأن موته لم يكن ضروريًّا، فالعَداء الذي أظهره له الناس سيُضيف إلى عزمِه عزمًا، وسيحوِّلُ لُطفَه إلى قوَّةٍ قاهِرة. أفليس بالغريب أنك بِمقاوَمَتك لأيِّ إنسانٍ تمنحه شجاعةً لم تكن له قبل مُقاومتك، وأنك بتَتَبُّعك لخُطواته تُسلِّحه بالأجنِحة؟ إنني لا أعرف أعداءه، ولكنَّني واثِقٌ بخوفهم من رجلٍ لا يعرف الأذيَّة قد أعاروه قوَّةً وجعلوا حياته خَطَرًا عليهم جميعًا. يسوع ابن الإنسان
End of preview. Expand in Data Studio
YAML Metadata Warning: empty or missing yaml metadata in repo card (https://huggingface.co/docs/hub/datasets-cards)

Dataset Card for [Dataset Name]

Dataset Summary

[More Information Needed]

Supported Tasks and Leaderboards

[More Information Needed]

Languages

[More Information Needed]

Dataset Structure

Data Instances

[More Information Needed]

Data Fields

[More Information Needed]

Data Splits

[More Information Needed]

Dataset Creation

Curation Rationale

[More Information Needed]

Source Data

Initial Data Collection and Normalization

[More Information Needed]

Who are the source language producers?

[More Information Needed]

Annotations

Annotation process

[More Information Needed]

Who are the annotators?

[More Information Needed]

Personal and Sensitive Information

[More Information Needed]

Considerations for Using the Data

Social Impact of Dataset

[More Information Needed]

Discussion of Biases

[More Information Needed]

Other Known Limitations

[More Information Needed]

Additional Information

Dataset Curators

[More Information Needed]

Licensing Information

[More Information Needed]

Citation Information

[More Information Needed]

Contributions

Thanks to @github-username for adding this dataset.

Downloads last month
6